قبل إعلان حكومة الوفاق الحكومي في مايو المنصرم، بشكل رسمي، برز إلى سطح الأحداث القيادي بحزب المؤتمر الشعبي المحامي “كمال عمر” مرشحاً إلى منصب وزير العدل، ولكن كان لحزبه رأي آخر، فقد دفع به إلى البرلمان ممثلاً له، إذ نصت مخرجات الحوار الوطني على تعيين (65) عضواً برلمانياً بقرار من رئيس الجمهورية، وكان “كمال” أحدهم، الأمر الذي سبب بحسب مراقبين للساحة السياسية، امتعاضاً، فحاول عرقلة تعيين “أبو بكر حمد”، وزيراً للعدل، الذي سُحب من مراسم أداء القسم في اللحظات الأخيرة لشبهات حول شهاداته العليا؛ عبر إثارته تزوير “حمد” لشهاداته، وقد اتهم الأخير “كمال” بأنه وراء إبعاده، وبعد أن انتهت عاصفته، حل “كمال عمر” عضواً في البرلمان، لكن المفاجأة أنه امتنع عن قبول هذه العضوية، مما عده البعض بمثابة (حردان) منه، إذ كان يطمح في الجهاز التنفيذي وزيراً للعدل، وآنذاك صوب انتقادات حادة للأمين العام لحزبه الدكتور “علي الحاج محمد” قبل أن يعتذر له لاحقاً، ويعدل عن قرار رفض عضوية البرلمان.
}غصة حلق
ما ذكر أعلاه يوضح أن سقف طموح “كمال عمر” دون البرلمان، فقد جاهد للوصول للجهاز التنفيذي ولكنه تعذر، هذا التعذر خلق له غصة في الحلق لم يستطع تجاوزها، ورغم أنه شكر رئيس البرلمان البروفيسور “إبراهيم أحمد عمر” في أول مداخلة له أثناء جلسة للبرلمان على حفاوة الاستقبال، إلا أنه كان يضمر للأخير انتقادات أرق وصف لها، أنها عنيفة. فتارة يدمغه بالدكتاتور، وطوراً يصفه بغير المؤمن بالحريات، ومرة يعيره بكبر السن مما يجعله غير مؤهل، وحينما كثر هجوم “كمال عمر” على رئيس البرلمان، تصدى له المتحدث الرسمي باسم الأخير “عبد الماجد هارون”، عاداً تصريحات الأول بالاستهداف الشخصي الذي خرج من اللباقة، معتبراً انتقادات “كمال” مزايدة سياسية لا معنى لها، ولم يصمت على هجوم “هارون” فقد وصفه بموظف يمدح ولي نعمته.
}تحدد التلاسن..
مضى بعد ذلك أسبوعان، اضمحلت فيها انتقادات الطرفين، لانعدام المواضيع التي يمكنها إثارة الهجوم، سيما أن البرلمان مضى في إجازة الدورة، ومن المتعارف أن يتيح البرلمان لعضويته إجازة لثلاثة أشهر بعد كل فترة انعقاد ليتصلوا فيها بمواطني دوائرهم، في وقت تظل فيه اللجان الدائمة تعمل، وقد ساهم اعتذار رئيس المؤتمر الشعبي “علي الحاج”، لرئيس البرلمان عن تصريحات عضو حزبه “كمال عمر” أواخر أغسطس، في إطفاء الخلاف إلى حين. بيد أن الأخير لم يعبأ باعتذار رئيسه، بل ربما ألهب مشاعر الانتقاد وكان ينتظر السانحة الملائمة لتجديد هجومه، وواتته الفرصة بعد عودة رئيس البرلمان من بلاروسيا الأيام السابقة، ليجدد هجومه على الأخير الأول من أمس، وهذه المرة أضاف إلى انتقاداته سخرية لاذعة، قائلاً: إن رئيس البرلمان كأنما صار وزيراً للخارجية من كثرة التسفار والتجول من بلاروسيا إلى جنوب أفريقيا إلى الكويت، في الوقت الذي ينتظر البرلمان عملاً مكثفاً حول القوانين المقيدة للحريات.
}رد فاحم..
وصادف ذات اليوم عقد رئيس البرلمان لمؤتمر صحفي لتنوير الرأي العام بنتائج زيارته، فعرج إلى أمر خلافاته مع “كمال عمر” قائلاً بحدة: (لا نقبل انتقاد من لا يحتكم إلى مرجعية وإنما لهواه)، قاطعاً بأن يأخذ بحديثه، وأضاف مصعداً الأمر: (إنت حر واتكلم ذي ما داير)، ليستدرك بعد قليل ويوضح أنه يحتكم إلى اللوائح وليس للأهواء والضغائن والكلام غير المؤسس.
هذا التوتر قد يعيق عمل البرلمان في الفترة المقبلة ــ خاصة وأن إجازة البرلمان على وشك الانتهاء ــ إذ ينتظر أن ينظر في تعديلات قوانين كثيرة متعارضة مع الدستور، ومناقشة تقارير الوزارات وإجازتها، فضلاً عن متابعة توصياته بشأن حالات التعدي على المال العام الواردة في تقرير المراجع العام، التوصيات التي لم يُنفذ الجهاز التنفيذي منها سوى (15%) تبعاً لتصريح سابق لرئيس لجنة متابعة تنفيذ التوصيات “عمر سليمان”، إضافة لمتابعة عمل الجهاز التنفيذي، ويرى مراقبون أن تلاسن رئيس البرلمان مع برلماني، أمر غير مألوف وغير مستحب، لأنه ينبغي توجيه طاقات البرلمان نحو إصلاح حقيقي، لمناصرة الإصلاح الذي تبنته الحكومة، بدلاً عن قضاء الوقت في مناحرات لا يجني أحد من ورائها شيئاً.
}واقع معاش..
وبالعودة إلى اتهام “كمال عمر” لرئيس البرلمان بأنه دكتاتور؛ فإن البعض من نواب البرلمان ومن واقع الجلسات التي يحضروها يرون أن هذا الاتهام ــ ربما ــ ينطبق عليه، نظراً إلى أنه يتحدث مع النواب أثناء إدارته للجلسات، بلهجة أبوية صارمة من شاكلة: (تفضل بالجلوس.. خلاص أقعد)، وفي بعض الأحيان لا يمنح المنتقدين الفرص في أوقات معينة يكونوا على دراية بالموضوع المناقش من أمثال “أمين حسن عمر”، بيد أن للنائب المستقل “مبارك النور” رأياً آخر، فهو لا يرى أن رئيس البرلمان ديكتاتور إطلاقاً، بيد أنه ذكر في حديثه لـ(المجهر) أمس، بوجود أغلبية ميكانيكية للمؤتمر الوطني في البرلمان، و”إبراهيم أحمد عمر” جزء من منظومة (الوطني)، ولا يستطيع الخروج عن إجماعها، ورفض تسمية التلاسن بين رئيس البرلمان و”كمال عمر” بالخلاف، ووصفه بتباين الآراء، وشدد في سياق غريب أن عضوية المؤتمر الشعبي منسجمة مع رئيس البرلمان، بيد أن “كمال” شذ عنهم لأنه يملك آراء مختلفة عنهم، ورفض التعليق حول توقعه بنهاية التلاسن بينهم.
ومما يدعم فرضية حمل “كمال” ضغينة تجاوزه في التعيين في الجهاز التنفيذي، رفض في اتصال أجرته معه الصحيفة التعليق حول توقعه لمدى زمني يتوقف فيه عن انتقادات رئيس البرلمان، مغلقاً أيّ باب للحوار معه.
بينما علق المتحدث الرسمي باسم رئيس البرلمان “عبد الماجد هارون” حول الوقت الذي من الممكن توقف فيه الانتقادات المتبادلة، بقوله: (حتى الآن لا نعلم الأسباب الحقيقية أو المنطقية لهذه الحملة، وبالتالي لا نستطيع أن نتكهن بموعد لنهايتها)، مذكراً أن “إبراهيم أحمد عمر” علق لأول مرة على انتقادات “كمال عمر” الأول من أمس، وأوضح في تعليقه ــ الذي أوردناه سابقاً ــ وجهه نظره فقط، وقطع بأن هذا التلاسن لن يؤثر في عمل البرلمان في الفترة المقبلة، إذ قال: (البرلمان يضم في عضويته أكثر من 400 نائب وكهيئة تشريعية يتجاوز الـ500 عضو، وهم متناغمون ويديرون اختلافهم بدرجة كبيرة من الوعي والمسؤولية والاحترام)، وأردف: (يعبرون عن مواقفهم المتفقة والمتعارضة بقوة وبمسؤولية يراعون في ذلك المعايير الأخلاقية والسياسية، لذلك الأصوات النشاز وهي لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، لن تفسد نغمة الوفاق)، واستبعد “هارون” قيام جهة ما بمبادرة لطي صفحة التلاسن بينهم، وقال متندراً: (المبادرة تحتاج إلى موضوع خلافي لتقريب وجهات النظر والوصول لمنطقة وسطى و”كمال” في تقديري ليست له قضية)، وأضاف: (أنه فقط اختار رصيف الجهة المقابلة ليقذف على كل الناس من تله الحجارة التي يعتليها بنعليه).
}”الطاهر” و”عرمان” خلافات مشابهة!!
ومن واقع التجربة البرلمانية على المدى المتوسط، فإن خلافاً مشابهاً لهذا الخلاف بين رئيس البرلمان الاأسبق مولانا “أحمد إبراهيم الطاهر” ورئيس كتلة الحركة الشعبية لتحرير السودان في برلمان نيفاشا “ياسر عرمان”، حيث إن الأخير كانت له آراء سالبة في رئيس البرلمان، يجاهر بها كثيراً ويسر بها قليلاً، ولكن رغم ذلك لم تصل إلى هذا المدى رغم أن مولانا “الطاهر” رد في أكثر من مرة على انتقادات “عرمان”، وما يحمد لـ”الطاهر” رغم حالة الفتور البائن في علاقته مع “عرمان”، أنه لم يستغل السانحة التي أتيحت له للتشفي في “عرمان” عندما ورد له طلب برفع الحصانة من “عرمان” على خلفية سبه للشرطة، فكان هذا الموقف بمثابة خط رجعة لـ”عرمان” ولم يعد بعدها يثير انتقادات أو مهاترات.
الخرطوم – يوسف بشير
المجهر السياسي