لا غرو أننا بتنا في أمس الحاجة إلى تنظيم التقاط الصور الذاتية (السيلفي)، فقد بات الأمر متجاوزاً لكل الأعراف، مثلاً فإن كثيراً من حجاج بيت الله الحرام، انخرطوا في التقاط صور ذاتية لهم في الأراضي المقدسة، ثم دبجوها في وسائل التواصل الاجتماعي، ليندفع آخرون للمناداة بتحريم دخول الهواتف النقالة إلى تلك البقاع الطاهرة، بالمرة.
ومنذ أن زود عمالقة الاتصالات هواتفهم بكاميرات أمامية، وذلك بالتزامن مع ثورة هائلة في وسائل التواصل الاجتماعية؛ حتى بات (السيلفي) أهم تمظهرات هذه الثقافة الهجين للقاء الأجهزة الجوالة وتطبيقات الذكاء الاجتماعي.
وبحسب إحصائيات عالمية، فقد لقي العشرات حتفهم بسبب مساعيهم لالتقاط صورة ذاتية مميزة، أو لبث فيديوهات مباشرة (لايف)، من أماكن ووضعيات خطيرة.
وتعاقب قوانين دول كثيرة كل شخص يهدد سلامته أو سلامة آخرين، لا لشيء إلا ليحصد عدداً كبيراً من الإعجابات والتفاعلات في فيسبوك ونظيراته الاجتماعيات.
حوادث محلية
في السودان، حاز فتيان على سخط غير مسبوق، بعدما التقطوا صوراً ذاتية مع جثمان الفنان الشاب محمود عبد العزيز، بعد ساعات فقط من رحيله عن الدنيا، لم يشفع لهم في ذلك طلبهم الدعاء لروحه.
كذلك صبَّ المدوِّنون جام غضبهم على شاب التقط صورة ذاتية أمام قتلى في نزاع مسلح، فيما تعلو وجهه ابتسامة غبية، بينما حظي أطباء التقطوا صورة لهم أثناء عملية جراحية بكفلهم كاملاً من العبارات القاسية واللعنات.
أما صور السيلفي مع طريحي فراش المرض أو في المقابر وأثناء الجنازات، فتكاد تتحول إلى مظهر اعتيادي من كثرة تداولها وتداورها في الأجهزة الجوالة.
سودانيون بالحج
شأنهم، شأن بقية شعوب العالم، أثبت الحجَّاج السودانيون حضورهم في مناسك الحج بصور خلفيتها الكعبة المشرفة، والحجر الأسود، أو بالإحرام في صعيد عرفات، وغيرها من صورة مأخوذة باحترافية بائنة أو بصورة هاوية من على تلك البقاع الطاهرة.
وحرص بعض أبناء جلدتنا على الذهاب لأبعد من ذلك، بالتقاط صورة ذاتية مع قادة الدولة، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فقد بُثَّت على نطاق واسع صورة تجمع شاباً بمدير مكتب رئيس الجمهورية السابق، طه عثمان الحسين.
حالات عربية
أكثر ردات الفعل بشأن سيلفي الحج لهذا العام، حصدها الداعية المصري عمرو خالد، والذي التقط صورة له، ومن ورائه الكعبة الشريفة، خاصاً متابعي صفحته بالرحمة والمغفرة. أما أكثر السيلفهات المثيرة للجدل، فكانت إقدام شباب عربي على التقاط صور ذاتية مع نجمة الغناء، أحلام، من باحة الحرم المكي الشريف، ولكن الحادثة مسجلة في موسم سابق. وأعلن كثير من نجوم الفن العربي عن أنفسهم في حج هذا العام، بصورة ذاتية، كما فعلت النجمة دنيا سمير غانم.
كشأنهم أبداً، ينقسم رواد وسائل التواصل الاجتماعي، في مسألة التوثيق للحج، بالتقاط الصور الذاتية. بعضهم يذهب إلى كون المسألة منافية للدين، وتحمل شذرات من رياء، في أكبر فعالية دينية في العالم تتطلب حضوراً قلبياً، لا سيما وأن جائزة الحج المبرور هو العودة خلواً من الذنوب كما في لحظة الميلاد تماماً بمقتضى حديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه).
يدعم ذات التوجه الفريق القائل بالنظريات الاجتماعية التي تأبى مشاركة اللحظات الخاصة مع آخرين، ويتساءل حُداة ذلك التوجه عما إذا كان يدري أصحاب السيلفي أنهم ينتهكون خصوصياتهم بمشاركة كل لحظاتهم مع الآخرين، مشيرين إلى أنه في حال أكد أحدهم وجوده مع كامل أسرته في الحج، فقد يكون منزله في الوطن عرضة لهجمات السارقين.
أما أشد كارهي السيلفي في وسائل التواصل الاجتماعي، فهم أولئك الذين يستشعرون وجود محاولات لإغراق وسائل التواصل الاجتماعي بصور لا تعنيهم في شيء عند كل مناسبة ومحفل، لهم في ذلك من أدلة أيامنا هاتيك طقوس (سيلفي الحج، سيلفي جلابية العيد، سيلفي خراف الأضحية، وليس انتهاء بسيلفي حفل الموسيقار محمد الأمين المعلق في جل حوائط فيسبوك).
ضرورة الوعي
وضعنا أمر السيلفي الذي يشغل العالمين حتى في شعائر رب العالمين، في طاولة الباحث الاجتماعي، خالد عثمان، الذي قال لـ (الصيحة) إنه من منحى اجتماعي، يتطلب وعياً وإدراكاً حتى لا يخرج الأمر إلى درجة الهوس، أو انتهاك الحرمات وخصوصيات الآخرين.
مشيراً إلى أن التوثيق محبذ ولا بأس به، ولكن مشاركة كل اللحظات، وتكوين مشاعر خاصة بمقدار تفاعلات الآخرين مع صورنا، فهو أمر يرقى لدرجة المرض النفسي، ويعزز من العزلة الاجتماعية التي فرضتها التقانات الحديثة.
كراهة
كيف ينظر الدين إلى (سيلفي الحج)، سؤال طرحناه على نائب رئيس هيئة شؤون الأنصار، الشيخ/ آدم أحمد يوسف، والذي قال بكراهة التقاط الصور في الحج، كونه عبادة مثل الصلاة والصوم، تتطلب انقطاعاً لذكر الله تعالى، واستشعاراً لعظمة المنسك، وانكباباً على الدعاء الصالح، وقد لا يتأتى ذلك للروح مع الانشغالات الدنيوية، وفي الصدد نوه إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبَّه الطواف بالصلاة، غير أنه يباح الكلام فيه.
وحثّ آدم في حديثه مع (الصيحة) ضيوف الرحمن، باغتنام هذه الساعات لتحصيل الحج المبرور، وقال إنه لا بأس من التقاط بعض الصور للبقاع الطاهرة لاستعادة مهابة اللحظة، ولكن ليس لنشرها بأغراض المباهاة.
وختم آدم حديثه مع الصحيفة بدعاء الإمام المهدي، في الاستجابة لقوله تعالى {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} حيث يقول، فيما علينا التأمين: (اللهم يا مولاي ويا ملجاي، مالي من يغيثني وينقذني من أعراض نفسي إِلَّا أنت، فأصدق نيتي لك، واقبل قيامي بين يديك حتى أعرف قدرتك وعظمتك فأناجيك على يقين من قلبي، ولا تجعل وقوفي بين يديك كالتمثال الذي ليس له نية فيما عندك وليس له عليك اقبال، آمين يا واحد يا رحيم يا غفار انزل في قلوبنا خيرك الهطال شوقنا لك مع حبك في كل حال).
الخرطوم: مقداد خالد
صحيفة الصيحة