كنا قد كتبنا عن نشوء أكبر تهديد للدولة السودانية التي قامت على إرث السلطنة الزرقاء أو مملكة سنار أو الدولة السنارية التي نشأت في بدايات القرن السادس عشر الميلادي بتحالف عظيم بين المكونين العربي والأفريقي ممثلين في القائدين عبدالله جماع وعمارة دنقس أو تحالف العبدلاب والفونج والذي قام على المرجعية الإسلامية التي اعتنقها الرجلان وشعباهما وأمتدت تلك الدولة من الخرطوم حيث العبدلاب حتى سنار حيث الفونج وتكون ذلك المركز الحضاري حول النيل ليشد أطراف السودان وأجزاءه الأخرى ويقيم دولة السودان الحديثة التي لم توهنها كل دعاوى الصراع بين المركز والهامش التي نشأت بعد ذلك كافراز لمشروع إعادة هيكلة الدولة السودانية الذي تبناه قرنق وتلاميذه من بعده عرمان وباقان ويوسف كوة والحلو وعقار تحت اسم الحركة الشعبية (لتحرير السودان) أو تحت ما سماه قرنق بمشروع السودان الجديد.
أكرر فأقول إن ذلك التهديد للدولة السودانية الحديثة التي قامت على أعتاب الدولة السنارية تمثل في قرنق الذي أراد تفكيك وإعادة هيكلة تلك الدولة القائمة على ذلك الأرث التليد وتلك الهوية السودانية المكونة من أربعة عناصر أساسية هي الدين الإسلامي الذي يعتنقه غالب أهل السودان ثم المكونان العربي والأفريقي بالإضافة إلى العربية كلغة قومية وثقافة غالبة.
لعل أكبر دليل على إتخاذ مملكة سنار هوية إسلامية مكونة من البعدين الأفريقي والعربي مع لغة قومية واحدة هي العربية ذلك الأنموذج الذي قدمه الشيخ فرح ود تكتوك الذي يعتبر أحد كبار الدعاة الذين اسهموا في تشكيل هوية تلك الدولة فالشيخ فرح ينتمي إلى العبدلاب الذين كان لهم سهم ضخم في تكوين مملكة سنار وسأنقل نماذج قليلة ، على سبيل المثال لا الحصر ، من النصائح الدعوية التي تقف دليلاً ساطعاً على الهوية الإسلامية لتلك الدولة والتي اشتهر بها ذلك الداعية الذي طبقت شهرته الآفاق ولا يزال السودانيون يرددون أحاديثه التي برع في نظمها بأسلوب شعري سهل الحفظ ومحبب إلى النفوس.
يقول الشيخ فرح :
ﺗﻮضأ ﺻﺤﻴﺢ.. وﺻﻞ ﺻﺤﻴﺢ… ﻭﺇﻥ سأﻟﻮﻙ ﻗﻮﻝ ﻗﻮﻻً ﻧﺼﻴﺢ… ﻭﻣﺪ ﺇﻳﺪﻙ ﻻ ﺗﻜﻮﻥ ﺷﺤﻴﺢ… ﺷﻮﻑ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎمة ﻛﺎﻥ ﻣﺎ ﺗﻘﻮﻡ ﻧﺼﻴﺢ.
اﻟﺘﺎﺟﺮ ﻳﺘﻢ ﻣﻴﺰﺍنو
ﻭﻳﺤلي ﻟﺴﺎﻧﻮ
ﺷﻮﻑ أﻛﺎﻥ ﻣﺎ ﺇﺗﻤﻼ ﺩﻛﺎنو
أﺩي ﺍﻟﻠﻘﻴﻤﺔ
ﻭﻋﺪي ﺍﻟﻜﻠﻴﻤﺔ
ﻭﺯﻳﻞ ﺍﻟﺼﺮﻳﻤﺔ
ﻭآﺧﺮ الليل أﺧﺪ ﻟﻴﻚ ﻗﻮﻳﻤﺔ
*ﺷﻮﻑ أﻛﺎﻥ ﻣﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ أﻫﻞ ﺍﻟﻨﻬﻴﻤﺔ.
هكذا عبّر الشيخ فرح وأمثاله عن هوية تلك الدولة الإسلامية ونشروا الثقافة العربية في أرجائها وهكذا كونت تلك الدولة في وسط السودان النيلي وشكلت النواة الأولى لدولة السودان الحديثة حول النيل والتي شدت الأطراف حول ذلك المركز الحضاري الذي لم تضعفه أنظمة الحكم التالية بقدر ما رسخته سيما وأنها لم تنقل العاصمة خارج ذلك المركز إنما اتخذت الخرطوم التي جاء شق العبدلاب المكون لمملكة سنار مع الفونج من أطرافها (الحلفايا).
ما تكونت الدولة السنارية حول النيل إلا لأنه مصدر الخصب والزرع والضرع الذي نشأت حوله تلك الدولة وواصلت الدولة التركية ثم الإنجليز والحكومات الوطنية التالية حتى اليوم تعميق وتركيز سلطتهم على الدولة السودانية من ذلك المركز الحضاري بذات المرجعيات التي قامت عليها الدولة السنارية.
من الجانب الآخر كما أسلفنا في المقال الماضي فقد تبنى قرنق الذي يعتبر المُهدِّد الأول والأكبر لدولة السودان الحديثة مشروع تفكيك تلك الدولة بذات المشاريع التحريرية الثورية التي قادها بعض الزعماء الأفارقة ضد الأقليات العرقية التي استعمرت دولهم بما في ذلك جنوب أفريقيا وزمباوبوي (روديسيا البيضاء) ضد البيض وتنزانيا ضد العرب وذلك من خلال (مشروع السودان الجديد) الأفريقاني العنصري الذي انشا قرنق من اجل انفاذه الحركة الشعبية (لتحرير السودان).
أفلح قرنق في إدراج كل من اقتنعوا بنظريته العرقية من غير العرب فنقل الحركة الشعبية إلى جنوب كردفان من خلال يوسف كوة وإلى النيل الأزرق بقيادة مالك عقار، أما دارفور فقد أنشأ فيها حركة أفريقية أخرى معادية للعرب تولى قيادتها عبدالواحد محمد نور ومنحها اسم حركته باختلاف بسيط حيث سماها (حركة تحرير السودان) التي انشقت فيما بعد إلى جزءين تولى الآخر مني أركو مناوي.
إذن فإن قرنق رفع شعار تفكيك وإعادة هيكلة الدولة السودانية الحديثة (Restructuring) وفي سبيل ذلك حرّض الأفارقة جنوب الصحراء ضد العرب وتبنى من أجل ذلك طرحاً عنصرياً زعم فيه أن العرب في السودان أقلية مستعمرة ودخيلة وحرض بتلك الحجة الشعوب الأفريقية المنفعلة بقضية الأفريقانية والتحرير بهدف انتزاع حق ما سماه بالشعوب الأفريقية في السودان وكان يقول للأفارقة جنوب الصحراء : (إن العرب مكثوا في الأندلس أكثر مما مكثوا في السودان وكما أخرجوا من الأندلس سيخرجون من السودان) وكذلك : ( العرب في السودان لا يختلفون عن البيض في جنوب افريقيا).
لم يدّخر قرنق مصطلحاً أو شعاراً لم يرفعه في سبيل التبشير بنظريته وكان شعار صراع المركز والهامش من بين الشعارات التي رفعها.
كان الشيوعيون أكبر مساندي قرنق سيما وأنه بدأ حربه بدستور ماركسي اتساقاً مع الرئيس الإثيوبي منقستو هيلي مريام الذي كان أكبر داعميه حين أنشأ حركته وجيشه في عام 1983 ومعلوم أن الشيوعيين مولعون بالصراع الذي يعتبر أهم آليات التغيير نحو تحقيق هدف الانتقال للحلم الشيوعي (الصراع الطبقي).
في سبيل تحقيق هدف تفكيك الدولة المركزية رفع قرنق شعار ثورة الهامش بحجة أن المركز هو الذي سلب المهمشين في الأطراف حقوقهم.
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة