“القول أمر لا يسهل إن كان ما تقوله يخالف ما تفعله”, هذه المقولة تكاد تكون صورة واقعية لتراجيديا الأوضاع السياسية في الساحة السودانية التي لم تخل من المفاجآت في وقت ينطبق فيه الأمر تماماً على النخب السياسية التي تنظر للمؤتمر الشعبي
بالمخلص والشفيف لأزماتها التي لا تزال تباغتها الحلول المتجزئة منذ سنوات طوال مضت. ورغم هذا فإن الجلبة التي تحدث بإلغاء الشعبي تظل هي الردم الذي لا ينتهي.
بالأمس كشف المؤتمر الشعبي النقاب عما أسماه بالهواجس والمخالفات التي ظلت عالقة بالعملية الدستورية والديمقراطية في مواجهة القوى السياسية التي انصاعت لقرار الوثبة، وشكلت حضوراً طيباً خلال جلسات الحوار الوطني الماضي بقاعة الصداقة استجابة لقرار السيد رئيس الجمهورية التاريخي، حيث كان الشعبي من أوائل الذين رحبوا به في وقت تخوفت فيه بعض القوى السياسية التي أبدت موقفها صراحة كالشيوعي الذي لم يدخل الحوار والبعث.
مساجلات تاريخية
ولكن مع مجريات الأيام وسريان الكثير من الظروف السياسية والزمانية جرت الكثير من المياه تحت جسر الحوار الذي شهد الكثير من المساجلات التاريخية ببطولة المؤتمر الشعبي الذي انسلخ عنه وعاد إليه مرة أخرى، فيما خرج عنه حزب الأمة القومي بحدوث قطيعة سياسية نسفت التقارب الحاصل بين الحزب والحزب الحاكم، وإيداع زعيم الأنصار المعتقل الذي خرج عنه مهاجراً ومقاطعاً للحوار الذي كان من أوائل المرحبين به، فيما تبعته أحزاب وقوى سياسية كجماعة غازي صلاح الدين في معية تحالف القوى الوطنية للتغيير وآخرين. بيد أن وجود المؤتمر الشعبي في كفة الحوار الوطني أعطت الحوار الدفع الجماهيري والسياسي لتأثير قيادات الشعبي في الساحة السياسية. بيد أن الأمر سار إلى أن وصل إلى تشكيلة الوفاق الوطني التي ولدت بعد مخاض عسير شهدت ساحته شروطاً كبيرة للقوى السياسية ومنها الشعبي، بيد أن سفينة الوفاق لم تمض غير مائة يوم، وهاهي تتقاذفها رياح الخلافات التي ضربت صفها إثر تفاقمها بين الحزبين الكبيرين الشعبي والوطني عبر الخلاف الذي تفجر داخل قبة البرلمان بين كتلة الشعبي ورئيس البرلمان إبراهيم أحمد عمر، مما ادى لتصاعد نبرة حادة اختفت قبل أكثر من 24 شهراً.
الأمر الذي دفع بالأمين العام دكتور علي الحاج لإذابة ما علق بالساحة السياسية من خلافات بين حزبه والحزب الحاكم. وهذا الأمر لم يجعله يدفن رأسه في الرمال، بل قذف بالكثير من الكلمات التي حملت العديد من المواقف تجاه القضايا المختلفة في البلاد نالت رضا البعض وانتقادات البعض الآخر, لكنها تظل هي رؤيا حزب كبير بحجم المؤتمر الشعبي، ولابد من أن يكون لها ما بعدها على السبيل الداخلي وفي العلاقة المشتركة مع الحكومة القائمة والذي هو جزء لا يتجزأ منها.
وحول الحوار الوطني ومخرجاته تظل رؤى الشعبي ثابتة بحسب ما أكده أمينه العام خاصة وأن المناكفات الأخيرة بين عضوية الشعبي والتي حدثت بين الناطق الرسمي باسم الحزب رئيس الكتلة البرلمانية الدكتور كمال عمر ودكتور إبراهيم أحمد عمر رئيس البرلمان، كانت قد حملت الأوضاع إلى ساحة المواجهة الثنائية, وكادت يستعصى أمرها لولا هذا التدخل في هذا الوقت الذي بدأت الساحة السياسية أحوج ما يكون إليها تحديداً.
ذكاء الحاج
ويرى البعض أن اعتذار الشعبي عبر بيان أمينه العام مؤخراً جاء لتلطيف الأجواء خاصة بين المجلس الوطني وعضويته داخل البرلمان في الوقت الذي أرسل فيه رسائل خطيرة عدها البعض بالتأديبية لجهة أنه قال لعضويته “كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة” في إشارة إلى التوقف عن المخاشنة والانقياد التام لمآلات الأمور التي ربما يبدو أن للحزب موقفاً تجاهها مستقبلاً. ويعضد ذلك دعوته إلى النطق بالألسن دون الأيادي، ويعني بها هنا المخاشنة اللفظية الحادة ربما لأنه لا يعقل أن يصل الحال بأعضاء البرلمان إلى التشابك بالأيدي. ولكن بحسب د. السر عبدالله الخبير والمحلل السياسي لـ(الإنتباهة) يرى أن موقف الشعبي في حديث رئيسه المنتخب علي الحاج، فيه الكثير من الذكاء حيث أنه أوصل ما يريد إيصاله من احتجاج رسمي للحزب الحاكم حول انتقاص ميزان الحزب أو حصص مشاركته في الحكومة الراهنة من عمر الوفاق الوطني، بعد إنفاذ ما اتفق بشأنه في مخرجات الحوار، والاتفاق الثنائي الذي جرى بين الحزب ونظيره المؤتمر الوطني بإيلاء بعض رئاسة اللجان في البرلمان والمجالس التشريعية لعضوية الشعبي ومرشحيه، وليس من المنصف إبقاءهم أعضاء فقط ما يجعل الأمر مخالفاً للترتيبات التي وافق عليها الحزب، ومضى على ذلك بأن ذلك كله كان تمهيداً للانقضاض على غريمه الوطني الذي يؤكد الشعبي في حيثياته بأنه انتكس عن خطواته واتفاقياته مع الحزب في السابق.
قاعدة الشعبي
ويضيف السر، إن الشعبي لم يقتصر حراكه السياسي وخطابه وقفاً على حزبه فقط, وإنما تطرق لما يشغل الساحة العامة والساحة السياسية على وجه الخصوص. حيث تناول الأوضاع المأساوية التي لحقت بطلاب بخت الرضا وفصل العديد منهم ما شكل لوحة وقاعدة حاكمت كل القوى السياسية والمؤتمرين بمخرجات الحوار الوطني الذي لم يطرح الحرية ولا المطالبة بالحقوق عن أحد طالما هي سلمية. كما تطرق الخطاب للعلاقات الخارجية التي يعتبر الشعبي أحد تدخلاتها فيما عرف بسطوة الإسلاميين ومحاولة الغرب ضرب صفوفهم.
ويرى محمد أن العقوبات الأمريكية كانت واحدة من الحلول الجزئية التي تناولها الشعبي ليجعل من طلته الأخيرة طلة عامة وليست خاصة.
يأتي هذا بينما لم تمر الدعوة المستنكرة التي دعا بها مبارك الفاضل المهدي وزير الاستثمار للتطبيع مع اسرائيل, وقد وجدت حراكا كبيرا، خاصة القوى السياسية الإسلامية التي لم تؤيد ما ذهب إليه مبارك باتباع مصالح البلاد, ولا يجب علينا أن نركب الموجة. لهذا فإن موقف الشعبي من أزمات البلاد لم تغادر موقفها ولا مربعها الأول الذي بدا للناس، وكأنما هو هدف ثانوي ليس هدف وجعة. في الوقت الذي استخدم فيه لغة وهمسات واضحة. لتظل من بعد كشامة في جبين الساحة السياسية وعيباً لن يقبل به الشعبي فيما لم يستنكره مبارك الفاضل الذي بدا للناس ومراقبي الأوضاع السياسية دون حزب يقف معه خلال محنته هذه.
عبدالله عبدالرحيم
الانتباهة