الخرطوم: الزين عثمان
بدا وزير الزراعة بولاية الخرطوم عمر عبد الوهاب وكأنه يردد العبارة الإعلانية الاشهر (البامية ما ياها) ففي إحدى جولات تسوقه في (مول) عاصمي رفض الوزير أن يحمل معه إلى سيارته ذات الدفع الرباعي كيلو بامية حُدد سعره من البائع بـ(45) جنيها، قال الوزير وهو يعرض برنامج وزارته أمام المجلس التشريعي إن سعر كيلو البامية حين خروجها من الحقل هو (4) جنيهات فقط وإن ما يجعله يصل لهذا السعر هو النشاط المتزايد لمن أسماهم بالسماسرة.. يحدد الوزير الاستراتيجيات التي من شأنها محاربة ارتفاع أسعار الخضروات داخل العاصمة وذلك عبر تبني استراتيجية تجميعها في مكان واحد يمكن من خلاله المحافظة علي قيمتها ومحاربة السماسرة في وقت واحد.
(45) جنيها هي قيمة كيلو البامية في بلاد تعد (سلة غذاء العالم) الأمر الذى يعيد طرح السؤال حول مستقبل الزراعة. وقبل أن يجف حبر ما قاله الوزير تنشر الصفحات الاقتصادية في الصحف الصادرة في الخرطوم خبرا يتعلق باستعداد مزارعي ذات الولاية لإنتاج ما يقدر بـ(800) طن من البامية البلغارية في منطقة سوبا غرب بغرض التصدير وهو الأمر الذي دفع بمدير المشروع للقول بأن إدارة المشروع خفضت (50 %) من رسوم الري و(25 %) من رسوم إيجار الأراضي من أجل تشجيع المزارعين للعمل من أجل الصادر.
الحديث عن التخفيضات ربما يشير إلى أن ما يدفعه المزارعون من أموال قد تفوق القيمة الحقيقية لما ينتجونه في نهاية المطاف.
قد لا يبدو الأمر محصوراً فقط في جانب المزارع؛ ففي آخر ظهور له يقول وزير الدولة بالزراعة صبري الضو إن وزارته تتجه لإجازة قانون خاص بالمهن الزراعية. الوزير يعترف بأن ظروف العمل الخاصة بالمهندس الزراعي غير مريحة فهو يعمل بشروط خدمة غير مجزية ولا توفر الحد الأدنى من مطلوبات الحياة وهو ما يدفع بالكثيرين منهم للبحث عن وظائف أخرى بعيداً عن الحقول التي لا تنتج لا وعداً ولا تمنيا. لا يمكن فصل واقع المهندسين الزراعيين عن الواقع العام للزراعة في البلاد وهو يشهد التردي في كل جوانبه.
يقول فاروق رحمة ـ مزارع من الجزيرة ـ إن الزراعة أصبحت غير مجدية ويمكنك القول إنها صارت أقصر الطرق للذهاب إلى السجون تحت قانون يبقى لحين السداد باعتبار أن ظروف التمويل التي تقدم مجحفة في حق المزارع كما أنه يترك ليقاتل في عدة جبهات وحده دون أن توفر له ما يعينه، هنا يشير فاروق إلى أن الدولة التي كانت في زمان ما تحمل الزراعة على كتفيها وتحملها الزراعة في حل المشكلات تركت هذا الأمر وعليها الآن أن تدفع فواتير ما اقترفت سياساتها السابقة، وكأنه يجيب على دهشة الوزير في ما يتعلق بوصول سعر كيلو البامية إلى (45) جنيها.. يقول مزارع آخر من الريف الشمالي بأم درمان: سياسات الجبايات هي المسؤولة عن هذا السعر ومتابعة مسار دفار يحمل البطاطس من شمال أم درمان وهو يتجه إلى السوق المركزي في بحري وما يتعرض له حامله من إيصالات يجعل من سعر الخضروات فوق قدرة أصحاب الدخل المحدود وهو ما يعني أن أزمة الزراعة لا تبدو رهينة فقط بالبامية التي أعلن الوزير مقاطعته لها لارتفاع ثمنها.
بعيداً عن صخب العاصمة وبقالاتها وانفجارها السكاني هناك في ما تبقي من الريف ما يزال المزارعون يغازلهم حلم تحقيق التطلعات وهم يجهزون حقولهم في انتظار أن ترسل السماء أمطارها لتنضج على نار الصبر واليقين حقول القمح والذرة والسمسم والدخن، لكنهم مثل غيرهم يخافون هجوم الطير والجراد ومعها بالطبع أوراق الجبايات التي يحملها موظفو الدولة المحروسون بالقوات الرسمية التي تساعدهم في إنجاز مهامهم، ومعها أيضاً توجيه آخر كان مصدره وزير الدولة بالزراعة في ورشة حيث طالب بضرورة إدخال ضريبة القيمة المضافة على المنتجات الزراعية وذلك من أجل زيادة الدخل القومي بحسب ما يرى الوزير، في حين يرى آخرون أن الحفاظ على قيمة الوطن نفسه تنطلق من ضرورة السعي لتعزيز قيمة الإنتاج وتحديداً الإنتاج الزراعي فهو يبقى الدرع الوحيدة المتبقية من أجل توفير عملة صعبة بعد أن انحسر النفط بعد انفصال الجنوب.
انتهى وزير الزراعة، إلا أن الخطوة الوحيدة التي يمكنه القيام بها هي أن يمتنع عن شراء كيلو بامية بسعر يبدو غير حقيقي من وجهة نظره وأن يسعى من أجل تجميع كل الخضروات المنتجة في مكان واحد من أجل محاربة السماسرة والذين يغتنون على حساب الشعب, لكن من قال إن قصة الزيادات هنا هي قصة متعلقة بمحصول واحد؟ ربما لا يستطيع أن يتخذ الوزير ذات الخطوة حين يقف أمام (الجزار) ويجد أن سعر كيلو لحم الضأن وصل إلى (120) جنيها وأن كيلو لحمة العجالي وصل سعره إلى محطة الـ(80) جنيهاً وأن كيلو الموز (فاكهة الفقراء) وصل إلى عشرة جنيهات.. مؤكد أن الوزير لن يستطيع مقاطعة (الرغيف) حين يستيقظ صباحاً ويجد أن جنيها واحدا صار يساوي رغيفة واحدة. القصة تبدو أكبر من (البامية) هي واقع اقتصادي عام يظل التوصيف الأصدق له (الشعب يختنق) ولن توفر له مقاطعة الوزراء للبامية مساحة لاستنشاق هواء نقي في ظل سياسات اقتصادية تكتم على نفسه.
صحيفة اليوم التالي