التقيت عدنان خاشقجي بجنيف في صيف عام ١٩٧٥بهوتيل president حيث استضاف الرئيس الأسبق المرحوم/ جعفر محمد نميري… في رحلة عمل وخاصة… تم الترتيب لها بمعزل تام عن اجهزة الدولة والسفارة السودانية بجنيف؛ والتي كنت اعمل فيها دبلوماسيا ناشئا (سكرتيرا ثالثا) وقتها.
والغريبة (وحظي الوحش كما يصفني دوما اخوتي المفتحين/ مرجي وابوقرين)
أني أصطدمت مع عدنان خاشوقجي من اول وهلة ولقاء عند مدخل جناح الفندق الذي أقام فيه نميري. ذلك عندما حاول عدنان خاشوقجي منعي (ودون معرفة سابقة لكلينا بالاخر) من الدخول علي الرئيس نميري لتسليمه تقريرا عاما بأحوال العالم والبلاد والخرطوم العاصمة؛ إذ استجوبنا وبرفقتي الملحق الاداري بالسفارة علي عبدالعزيز؛ وبحدة لافته لم أتقبلها:
“انت مين؟ وعاوز ايش”؟؟
ورددت علي خاشوقجي وببرود “دبلوماسي”؛ وانا اخفي السخونة الكردفانية المألوفة:
“وأنت ذاتك مين؟ وجابك هنا مين؟ وليش”؟؟
هنا تدخل العميد حسين الحارس الشخصي لنميري؛ وأدخلني مباشرة للرئيس نميري في جناحه الخاص حيث كان سيادته مراقبا من بعد للمشاددة التي جرت.
وجدت الرئيس نميري جالسا علي الارض وسط مجموعة مقربة من حرسه الخاص وطبيبه الشخصي د. عبدالسلام صالح عبسي يتسامرون في ود ومرح باد: محبب وبريء … بينما انزوي عدنان خاشوقجي في غرفة مجاورة تحرس مدخل جناح الفندق والاسانسير؛ مرتديا جلابية سودانية خضراء اللون؛ حافي الرأس والقدم.. دون ان ينتقص ذلك شيئا من حضوره الطاغي المهيب.
سلم علينا الرئيس نميري بحرارة دافقة ولطف ظريف، ثم استلم مني التقرير وقرأه بلهفة وشوق لأخبار السودان والبلاد.
التفا بعدها علي السفير وقتها المرحوم/ د. أمين ابوسنينة معلقا وبطريقته العفوية المحببة:
” التقرير الدسم دا كلو أعده وطبعه وباللغة العربية كمان… هذين الولدين المفعوصين ديل”… وقد كنت وقتها سكرتير ثالث ناشيء حديث التخرج من جامعة الخرطوم وكان معي وبجواري الأخ/ علي عبدالعزيز الملحق الاداري.
رد عليه السفير/ ابوسنينة مؤكدا: نعم السيد الرئيس. معي بالسفارة هذين الولدين فقط؛ وتعبانين جدا في الشغل وتمثيل السودان في مؤتمرات واجتماعات ما يزيد عن مائة منظمة امّم متحدة ووكالات متخصصة ومنظمات دولية بخلاف علاقات السودان الثنائية وخدمة أفراد الجاليات السودانية في كل من: جنيف وسويسرة وجنوب ألمانيا وفرنسا وإيطاليا علي حدود هذه البلدان المشتركة مع سويسرة.
رد نميري بحسم:
“لا.. كثرة عدد الناس لا تعني كثرة الإنجاز والعمل. شايف هسع انا ولوحدي ما معاي لا وزير لا سفير وشايل علي كتفي كل عمل وهموم البلد. لكن قول: أحسن نرقيهم ترقية استثنائية ونزيد ليهم مرتباتهم دبل”.
التفت الرئيس نميري بعدها الي والي زميلي الاداري الأخ/ علي عبدالعزيز:
“يا اولاد: تعرفوا تعملوا حلة قطر قام”.
رددت عليه: أني لا اعرف اعمل حتي كباية شاي؛
لكن زميلي علي عبدالعزيز: الجلابي دا أكيد بعرف الطبخ وبكافة فنياته وبصلاته”…
عندها طلب منا الرئيس نميري الانصراف وتجهيز الحلة “قطر قام” فورا.
ذهبت مع زميلي علي عبدالعزيز الي الجزار بشارع
4 / Rue de Vermont
وطلبنا من الجزار السويسري وبلغة فرنسية ركيكة كنّا الاثنان في بدايات تعلمها.
طلبنا من الجزار اكثر من ٥ كيلو لحمة ضاني بعظم.. استغرب الجزار هذا الطلب وضخامة الطلب.. ودون تنويع لقطع اللحم المطلوبة للشواء مثلا: كيلو فليتو؛ ربع كيلو كستليتة، نص كيلو استيك.. مش ١٠ كيلو وكلها عصام مع شوية طويرات لحم…
اضطررنا لاستخدام لغة الإشارة مع الجزار الأعجمي ( وفِي الحقيقة نحن العجم مش الجزار): اقطع يا جزار من الفقرة.. ديك.. من الرقبة.. من فقرة الخروف الماكنة ديك؟؟
عظم الظهر… الضهر… ما تنساه..
اندهش الجزار فاكثر بطلبية لحمة وعظام تطلبت قطع عظم ظهر وفقرة (اقصد رقبة اكثر من ٥ خروف من خرفان الخواجات القصار المدبلغات ديلاك).
ثم اطلق كلمته التي صارت من بعد نكتة تتداولها مجالس الظرفاء في العاصمة الخرطوم والسودان بأكمله:
” انتو عندكم يا كافي البلاء كم كلب في البيت”؟؟؟
(كمبيان دو شياه فوزافيه الا ميزون)… قالها باللغة الفرنسية السويسرية المهجنة؛ في محاولة لتوصيل الرسالة لنا وبحسب قدرتنا في فهم واستيعاب العجمية آنذاك.
المهم انا واخوي علي عبدالعزيز جرينا جري علي شقته بشارع “رودو لوزان” والقريبة من هوتيل بريزدانت والباسيفيك هوتيل.
جبنا البصل وقطعناه، وفرمنا الثوم والفجل.. ورائحة الطبيخ فاحت وملت العمارة حتي الشارع. جبنا الطماطم والصلصة… والعيش الفرنسي الطوال داك… وعبينا حلتين كبار… حكاية تأكل “صوابعك معاها” علي قول اخوتنا المصريين…
وَيْا هوتيل President جووك سودانيين (جلابة وغرابة)؟؟
مرينا بسلام علي استقبال الهوتيل؛ ولم يعترضنا احد. لكن علي جهة المصعد؛ عامل الأسانسير شم ريحة الكشنة والحلة المسبكة. حاول ان يعترضنا؛ فرفعنا الكارنيه والحصانة الدبلوماسية في وجهه؛ فسكت.
وضعنا الحلتين امام الرئيس نميري في الصالة المرفقة بغرفة النوم الرئيسيّة. قام واحد متفلسف من حرسه الخاص قال: خطوهم علي طاولة الطعام المنصوبة بكامل أطقم الصحون والسكاكين والشوك. اعترضه نميري حالا:
“لا… نأكل كلنا بيدينا فقط… وأرضا..
مافي جرائد؟
جيبوا جرائد وافرشوها أرضا”…
وتعال شوف ليك جنس: رب ومطخ: لا كشف طبي، لا ضواقة اولا، لا تشكك في تسمم… لا من جانب الرئيس نميري او من حرسه او طبيبه الخاص.
ونحن كمان من جانبنا ليس في راسنا الا اكرام الضيف: دون ترقب شكر او إكرامية؛ من جانبنا نحن الاثنان. لا من: نميري ولا من خاشوقجي.. بينما كان وظل عدنان خاشقجي يراقب في دهشة وانبهار هذا المنظر النبيل من مخبئه البعيد… متعجبا من هذه الثقة المتبادلة ومن هذا النسيج السوداني المتفرد البديع؟؟؟
اها… نرجع لموضوع ترقيتنا وزيادة مرتباتنا… يمين حتي الليلة: تجري وتستربع… لا قرش ولا حتي خطاب شكر؟
او اشادة ؟؟
بل بالعكس علمنا لاحقا ان الزيادات قد جات بعدنا واستفاد منها فقط زملاؤنا الذين أتوا بعدنا بعدة سنوات؛ وبعد ان انقضت فترة عملنا النهائية بجنيف، ورجعنا بعدها الي السودان وسكن الإيجار بالعباسية والهاشماب بام درمان الحبيبة: نستمتع ونتلذذ بالكوارع والأقاشي والشية من خرفان حسن خماس الحمرية؛ بدلا عن خرفان جنيف المبغبغة الشحمانة والما بتعرف تقول باع: حمدا وتسبيحا للمولي عز وجل.
والان أيها الإخوة الكرام:
يا الله علينا جاي.. عيد الاضحي قرب. علينا جاي وعلي خراف حسن خماس الحمرية الدبلوماسية:
وغنمي ترعي…. طول الْيَوْمَ
وسط المرعي….. طول الْيَوْمَ
وبها اسعي ….. طول الْيَوْمَ
وهي شبعي …. طول الْيَوْمَ
طول الْيَوْمَ ….. طول الْيَوْمَ .
السفير/ حسن جادكريم