قرابة قرن ونصف مضت على تلك اللحظة التي لامست قدماه فيها أرض مصر، ولحظات تأمله لأول مرة في بلاد الفراعنة، ها هو الشاب القادم من دوركينج التي تبعد فقط 34 كيلومترات عن العاصمة البريطانية لندن يستعد لتجربة جديدة ربما لم يعرف حينها أنها ستكون تجربة عمره، وسيقضي في هذه البلد سنوات طويلة يتقلد فيها مناصب كبيرة، هو السير والتر فريدريك ميفيل، رئيس مجلس الصحة البحرية والحجر الصحي المصري والقنصل البريطاني في الإسكندرية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، الذي روى مذكراته عن هذه البلد التي ربما لم يرها الأحياء حاليًا، يشرح لنا كيف كانت مصر حينها، أو على الأقل كيف رأتها عيناه، لنرسم نحن بأعيننا ربما لقطات تساعدنا على معرفة تفاصيل أكثر عن ماضينا.
«مصر، أرض (بُكرة) و(البقشيش)، حيث يتنفسون الشمس المشرقة والسماء الزرقاء كالمظلة الدائمة، كلها أنجبها الأب النيل، ماء الحياة، وطينته الخصبة، السجادة تحت أرجل الفلاحين العارية، أكثر الفلاحين طيبة وأقلهم تطورًا، الذين حرثوا التربة منذ أن كتب الفراعنة مآسيهم على وجه العالم، كانت هذه مصر عام 1874، عندما وطأت قدماي أرضها المضيافة، وأنا أقترب بسرعة من حافة الإفلاس.
الخديو إسماعيل، كان ذكيًا ورجل الأفكار الكبيرة إلا أنه بسبب البذخ المتهور والسهولة التي وجد أنه يمكن أن يقترض مبالغ ضخمة من أوروبا، قاد بلاده الجيدة إلى الخراب.
كانت نية إسماعيل جيدة، لا شك في ذلك، وكثير من التحسينات التي خطط لها والتي حتى تمت جزئيًا أكملها وتستمر لخدمة شعبه، لكن الآثار الشريرة لبذخ إسماعيل وأساليبه المتهورة اقتصاديًا كانت أوسع نطاقًا وكانت سببًا مباشرًا في الانتشار الكبير للبؤس والظلم والقسوة والفساد.
كان كل شيء سهل طالما استطاعت مصر سداد ديونها في العواصم الأوروبية، لكن عندما أصبح الحصول على المال أكثر صعوبة، نظر إسماعيل لمستشاره للخزانة، أو (المفتش) من أجل إمدادات، ونظر المسوؤل الاقتصادي بدوره لحكام المقاطعات، الذين نظروا للمحافظين، والمحافظين نظروا للشيوخ، والشيوخ نظروا للعمد، وبالطبع أتى المال من الفلاح الصبور الذي يعاني، هذا النظام نتج عنه انتهاكات أخرى، وشرور أخرى، وفساد جديد.
دعونا نفترض أن الخديو طلب من وزير اقتصاده 100 ألف جنيه استرليني، الوزير، الذي يخشى الصعوبات التي يمكن أن تحدث لجمع المبلغ المطلوب، وبالطبع لا يخجل من الحصول على بعض الآلاف إذا زاد المبلغ المجموع عن المطلوب، يصدر قراراته لحكام المقاطعات بجمع مثلًا 120 ألف جنيه استرليني، وليظهر حكام المقاطعات حماستهم مع رغبة في الحصول على بعض المكاسب لأنفسهم، يكتبون لمن يليهم في الدرجة الوظيفية يطلبون مبلغًا أكبر مما طلب منهم، ليصل الأمر إلى جمع حوالي 150 ألف من دافعي الضرائب، بينما طلب الخديو 100 ألف فقط.
أما باقي المبلغ المجموع الـ50 ألف، يذهب ليغني عدد الأشخاص المشاركين في العملية، وبذلك أصبحت الإدارة فاسدة من أعلى إلى أسفل.
الآن يمكن بسهولة فهم الوضع الكارثي الذي كان عليه أسلوب جمع الضرائب، في موسم وفي غير موسم جمع الضرائب كان جامع الضرائب ينقض على الفلاحين وفي حالة لم يستطع أحدهم تلبية الطلب الظالم، كان يلجأ في يأس لاقتراض المبلغ من (مرابي القرية)، يهودي أو يوناني، أو سوري، الذي كان دائمًا يحافظ على ما يمكنه من الاستمرار في تجارته القاسية، ولم يتهاون المرابي في تأمين قرضه، فإذا لم يدفع بالكامل يدفع من لحم المقترض، أو الحصول على الفدادين في المقابل، وكان هذا الأمر سببًا في انعدام الأمن في ذاته.
العدالة بالنسبة للسكان الأصليين لا وجود لها، باستثناء أولئك الذين يستطيعون تحمل الكماليات من أجل العدالة، مثل الحصانة من الضرائب، لا يمكن أن يحصل عليها سوى أولئك الذين يستطيعون الدفع.
كذلك عملية الري، الذي يلعب دورًا حيويًا في الرفاهية الزراعية للبلدان المسطحة كالدلتا، لا تحدث إلا بهدف استفادة ملاك الأراضي الكبار دون النظر لمصلحة البلد ككل، وإذا حصل الفلاحين على بعض الماء يكون بعد معاناة المعاناة، كما الكلب الذي يأكل الفتات من على طاولة سيده.
أما المسؤولون الحكوميون، في حالة عدم توافر وسائل خاصة لديهم، فلم يكن لهم، في كثير من الأحيان، أي خيار آخر غير التخلي عن مرتبهم أو حرمانهم منها في تلك الأيام، والتي كانت تتأخر في كثير من الأحيان عدة أشهر.
كان هذا هو الوضع عندما هبطت كشاب في مصر، كان سيكون من المبالغة أن أقول إنني وصلت في وقت كان من المرجح أن يكون وادي النيل على وشك أن يصبح مسرحًا لتحريك الأحداث».