على طريقة (داعش) في ابتزاز واستغلال الشباب والأطفال .. ظهر على السطح سيناريو مشابه، فهناك أحاديث عن حالات ابتزاز واستغلال تدور أحداثها داخل صروحٍ للتعليم العالي والبحث العلمي.. ويعرف الجاني كيف يختار الضحية؟ وكيف يوجهها إلى الاتجاه الذي يريده ويضمن له الوصول إلى تحقيق أهدافه؟ .. أضحى اتساع دائرة الضحايا يتسارع مع تسارع الحاجة إلى النجاح، والأضرار لا حدود لها .. أساتذة يتمادون وطالبات يتعرضن لتشويه السمعة وأخريات يترددن على المكاتب لغرض ما، وطلاب صامتون يقفون موقف (المتفرج) ويراقبون من على البعد المشاهد، وسط ذلك التداعي لا يوجد عقاب قانوني رادع بالشكل الكافي ، فما يحدث قد لا يصدق.. لكنه الواقع والحقيقة (المرة) التي تحدث خلف أسوار عالية لها التقدير والاحترام.
شكوى وظلم
على صفحته الإسفيرية في الفيس بوك.. نشر الطالب (عبد الله موسى عبد الله) بكلية التربية جامعة كسلا، قبل أيام (بوست) قرع من خلاله الجرس بسبب تزايد ظاهرة التحرش والابتزاز (الجنسي) في الجامعة خاصة من بعض الدكاترة، وبعث رسالة استغاثة مؤلمة لوزيرة التعليم العالي (د. سمية أبو كشوة )، شرح فيها الأساليب التي يتبعها بعض الأساتذة الجامعيين لاستغلال الطالبات بطرق غير مشروعة ـ مستغلين سلطتهم وقربهم من الإدارة..
مضمون الرسالة مؤثر جداً، فقد كشفت عن فساد أخلاقي من هيئة التدريس دون مساءلة أو محاسبة.. والأمر من ذلك فقد كلفه دفاعه المستمر عن زميلاته اللاتي تعرضن للتحرش (الكثير الكثير)، كما أن انتقاده للظاهرة التي ظلت إدارة الجامعة صامتة تجاهها أدخلته في دائرة الظلم، والتعدي المقصود على النتيجة والرسوب الذي بدأ يلاحقه في المواد منذ العام الماضي ..
الظاهرة موجودة
(عبد الله) وبحسب رسالته هو من أنجح الطلاب، نفذت الإدارة ضده وعيدها وتهديدها وتم استبعاده وعدم تكريمه ضمن الطلاب المشاركين في مهرجان التعليم العالي الخامس بالسودان.. رغم أنه الطالب الوحيد الذي حاز على جائزة ضمن البعثة الثقافية للجامعة في المهرجان، كما حرمته الجامعة من الجائزة المالية والتي كانت عبارة عن مبلغ مالي ضخم لكنه دخل خزينة الجامعة باسمه ولم يخرج حتى اليوم.. وكانت قد نشرت بعض الصحف خلال الأيام الماضية قضايا متعلقة بالابتزاز داخل الجامعات، وتم عرض إحصائية رغم أنها لا تتجاوز الـ(19) حالة لكنها مخيفة، وتشير لوجود ظاهرة خطيرة ووليدة وسط مجتمع الجامعات الذي عرف عنه التماسك.
وجاء في تعليق لأحد المسؤولين أن ظاهرة (الابتزاز والتحرش) موجودة ومتفشية بكثرة في كل مؤسسات الدولة الخاصة والحكومية، لكن كونها تتسرب إلى الحرم الجامعي فإن الأمر يحتاج لوقفة .. والبحث عن الأسباب ومعالجتها من جذورها، وبحكم علاقة المسؤول بالمحيط الجامعي أكد أن (30%) من حالات الابتزاز تحدث بالجامعات الحكومية، والهدف منها منح الطالبات درجات إضافية تضمن للواحدة منهن النجاح وتفادي الملاحق والرسوب، موضحاً أن القضية مسؤولية مشتركة بين الطرفين، وهي جريمة يعاقب عليها القانون.
سيناريو محكم
خلال جولتها جلست (الصيحة) إلى عدد من الطلاب والطالبات المتحلقين حول بائعات الشاي (بحوش) النيلين الواقع شمال كلية التجارة، والذي يجمع كل ألوان الطيف من مختلف الجامعات، وطرحت عليهم السؤال حول وجود حالات ابتزاز أم لا؟ وإذا وجدت كيف يتصرف ليحمي الطالب زميلاته؟ ..
(عماد) اسم مستعار، يدرس كلية الآداب جامعة النيلين.. حكى لي قصة طالبة بجامعة السودان ظلت تتعرض لمضايقات من الأستاذ (فلان) داخل (لاب) الفيزياء الواقع بالجناح الغربي، ولم تتمكن من ردعه خوفًا من الرسوب، فاشتكت لأحد زملائها وطلبت منه حمايتها والوقوف معها، وحتى يتم ضبطه متلبساً ولا يستطيع الهرب من محاولاته (الخبيثة )، وضعت خطة محكمة لإيقاعه في (الشرك) حيث طلب ذلك الزميل من الضحية تسجيل حديث الأستاذ في هاتفها عندما يطلب منها أي شيء، وبالفعل نفذت ما طلب منها، وتم تسجيل صوتي للأستاذ الذي يدعي الالتزام وحسن الأخلاق، مفاده (إذا أردتِ أن تمري في المادة وتحرزين أعلى النسب بل درجة ممتاز يجب أن تقدمي تنازلات وترافقيني إلى منزلي.. ولو حابه ترسبي هذه السنة أخبري أحد)، هذا الحديث وقع كالصاعقة على إذن الطالب وبعض من زملائه فقرروا عمل (كمين) (للثعلب الماكر) فلان) وبالفعل وقع في شر أعماله، وبدم بارد حاول الهرب بعد أن انهال (بالسب واللعن) على الضحية، ووصفها بعدم الأخلاق وأنها ظلت تلاحقه منذ فترة، لكنهم رسموا ابتسامات سخرية على وجوههم وبكل هدوء قاموا بتشغيل التسجيل الذي كان بمثابة مفاجأة قاتلة، فهو لم يكن يتوقع أن سيناريو يكتب لينهي خبثه، التصرف الحكيم كما يقول مصدري أن الأستاذ ترك (اللاب) بشكل نهائي خوفاً من الفضيحة ولم يعد يراه أحد.
ابتزاز ناعم
أمر غريب وقصص لا يتخيلها أحد.. هل تصدقون أن بالجامعات طالبات يتحرشن بالأساتذة، من أجل النجاح والمساهمة في دفع تكاليف المذكرات والامتحانات وغيرها، هذا ما قالته الطالبه (ريم) التي أشارت إلى أن بعض الطالبات يترددن على مكاتب الأساتذة بهدف التقرب منهم وإقامة علاقات عاطفية مشبوهة، وبالتالي استغلالهم لتحقيق الهدف المقصود، وهن فئة متخصصة في كيفية جذب الأنظار. وذات الحديث يؤكده طالب الماجستير (إبراهيم) بجامعة الخرطوم فهو شاهد موقفاً لطالبة عرضت نفسها على أستاذها بدون حياء، فكان نصيبها النجاح المستمر رغم غيابها المتكرر وعدم حضور محاضرات معينة، ويرى أن عملية (الابتزاز) قضية ذات أبعاد متعددة تدخل فيها التربية والوضع المالي والاقتصادي للأسر، إلى جانب عدم مراقبة ومتابعة الطالبات من جانب أولياء الأمور، والانفتاح والأريحية في التعامل بين الطالبات والأساتذة، الأمر الذي ساهم في تحول الحالات البسيطة من (التحرش الجامعي) إلى ظاهرة تمارس في الخفاء، وأخبرتني إحدى الطالبات ـ فضلت حجب اسمها ـ أنها مرة سألت أستاذها عن طرق النجاح فأجابها النجاح غالي جداً.. فسألته كم يكلف؟ فأجابها أنه أغلى من الدولار!!! منذ تلك اللحظة شعرت بأن بعض الجامعات وبهذه الطريقة تخرج طالبات بلا أخلاق وبلا محصل أكاديمي، ودعت إلى ضرورة أن تضع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي قوانين رادعة، وإنزال عقوبات صارمة على الحالات التي يتم ضبطها، مع احترام حرمة وقدسية هذه الصروح التعليمية.
اعتراف طالبة
في المحيط الجامعي، يوجد أساتذة يتمتعون بأخلاق عالية ويتعاملون مع الطالبات مثل (بناتهم)، هذا التعامل الشفاف البعيد عن مقاصد (الشهوة) تمتعت به الطالبة (سهام) كلية الآداب جامعة النيلين، والتي قالت لـ(الصيحة) وبكل صراحة أنها لم يحدث أن تعرضت لتحرش، وإنما بعض الأساتذة كانوا مقربين منها ومعجبين بها، ولم يصارحها أحد منهم بإحساس عاطفي أو التفوه أمامها بمفردات الابتزاز والاستغلال، والتعامل بينها وبينهم فيه أريحية وحب (لوجه الله) كما ذكرت، حتى إنها نجحت في مادة لم تجاوب في امتحانها سوى على سؤالين فقط، ولم ترجع للأستاذ للاستفسار حتى لا تدخله في حرج.
واتفقت مع الحديث القائل بأن هناك طالبات (يتحرشن) بالأساتذة بكل الوسائل المتاحة وغير المتاحة، وهذا يحدث في كثير من الجامعات، وأضافت: هن اللاتي يبادرن بتقديم تنازلات حتى تضمن الواحدة منهن النجاح في المادة والتخرج في نهاية المطاف بسلوك (فاحش)، وأشارت إلى رفض بعض الأساتذة هذا السلوك (المنحط).
وتواصل (سهام ) الحديث قائلة (عندما ترسب الطالبة من الصنف الذي أشارت إليه سابقاً في المادة تتهم الأستاذ بأنه يقصدها لذلك رسبت في مادته)، فيما أشار البعض إلى أهمية وضع ضوابط تتمثل في الزي الموحد للطالبات عموماً في كل الجامعات، مع إقامة ندوات تثقيفية وتعيين مراقبين للجامعات من وزارة التعليم العالي والأهم، من ذلك أن يضبط أطراف الظاهرة أنفسهم من ارتكاب المحرمات، مؤكدين خطورة الظاهرة التي وصفوها بـ(المؤذية) والناتجة من جينات وراثية بالتأكيد مريضة.
ضوابط واجبة
د. (عثمان إبراهيم) أستاذ مشارك يدرس علوم الاتصال في عدد من الجامعات، يفيد بأن الأمرغير مقبول، ويفترض في الأستاذ الجامعي أن يكون متسامياً بقدر الإمكان، نظراً لأن هذه الأفعال والسلوكيات تقلل من قيمته ومن سمعة الطالبات والجامعة معاً، فيجب أن يكون التعامل لائقاً ولابد من الابتعاد عن مثل هذه التصرفات التي تسيء لمنظومة التعليم الجامعي.
واتفقت معه أستاذة (نوال عباس) التي أرجعت الأسباب إلى العلاقات المفتوحة والسماح بالنقاش حتى في الأمور الخاصة كما يحدث الآن بين الأستاذ وطالباته، وهو ما خلق مثل هذه الظواهر، وأردفت: الغريب في الأمر أن الأساتذة أنفسهم يقللون من احترامهم بالمزاح المتواصل والتدخل في شؤون الطالبات وفتح أبواب المكاتب في غير موضعها مثلاً لـ(الونسة الخاوية من مضامين) بعيداً عن مراجعة المواد أو شؤون الكلية وغيرها، فهناك انفتاح غير طبيعي وأريحية مبالغ فيها بين الأستاذ وطالباته، جعل من الظاهرة تنمو وفي بعض ألأحيان تكون هناك علاقة مفتوحة فعندما تخسر الفتاة أو تفشل العلاقة توجه اللوم إلى الأستاذ.
وختمت حديثها بوجود حالات كثيرة لطالبات يسيطر عليهن وهم الاستهداف من قبل الأساتذة.
خلل أكاديمي
لم يبتعد دكتور (أسامة حمدنا الله) الخبير التربوي عن الأحاديث السابقة، ويقول: يوجد عدد من الطالبات يدعين بأن الأستاذ يقصدهن في المادة، وهذا الأمر لا يتوقف في الجامعات وحدها بل في المدارس وغيرها من المؤسسات الأخرى، ويؤكد أن أي طالبة تعاني من خلل أكاديمي يؤدي إلى تعطل دراستها ورسوبها في مادة ما ترمي باللوم على أستاذ المادة بأنه يعاقبها لرفضها تلبية رغباته، وهذه أصبحت ظاهرة متفشية بشكل غريب داخل الجامعات الأمر الذي يتطلب وجود اختصاصي علم نفس داخل كل كلية حتى، للوقوف على تحليل نفسية الطالبات والطلاب أنفسهم، ووصف هذه التصرفات بـ(الساذجة) والوهم الكبير المتفشي وسط فئة معينة ونوعية طالبات مصابات بنوع من حالة تسمى (البارانويا) وهي حالة من الشعور بالعظمة التي تجعل الفتاة تتوهم بأن الأساتذة يلاحقونها بنظراتهم، وتبدأ في إصدار الشائعات التي يصدقها البعض من المحيطين بها لأنها تحكم رواية القصص حول المعنيين الذين يطلبون منها تقديم التنازلات.
في ذات الوقت لم ينف عدم وجود أساتذة عديمي أخلاق يطاردون الطالبات ويبتزونهن لأهداف شخصية ولتلبية رغباتهم (الجسدية) المرضية، الأمر الذي يتطلب ضوابط رادعة تعمل على قتل هذا السم الذي يهدف للقضاء على سمعة الجامعات .
ضعف العقوبات
للقضية أبعاد قانونية مسكوت عنها، وفي هذا الجانب تحدث لـ(الصيحة ) المحامي (زين العابدين الريح) مشيراً إلى عدم وجود قوانين واضحة تجرم الابتزاز، وأن العملية في النهاية تحدث بين طرفين وبالرضا والقبول، كما يصعب إثباتها إلا بواسطة شهود أو عقوبة واضحة من إدارة الجامعة، ويقول: هي لا ترقى لأن تكون ظاهرة، فالمجتمع السوداني عرف بالتماسك أكثر من غيره من المجتمعات الأخرى، وما زال يحافظ على كيانه بعيدًا عن التلوث.
جانب اجتماعي
وفيما يتعلق بالجانب الاجتماعي لقضية (الابتزاز) داخل الجامعات تقول أستاذة علم الاجتماع (ثريا إبراهيم) إن التحرش والاستغلال أصبح آفة مجتمعية أصابت المجتمع الذكوري، وتساءلت لماذا لم نسمع بهذه الظاهر في فترة الثمانينات والسبعينيات من القرن الماضي، وترى أن ذلك يختزل في جملة واحدة وهي (أزمة الأخلاق )، فالمجتمع الآن أصبح مريضاً نفسياً يلصق مرضه الجنسي وكبته في أسباب ظاهرية كتأخر سن الزواج وضيق الحالة الاقتصادية وتدني أخلاق البنات واستفزاز الشباب بارتداء الملابس المثيرة، فهذه الأسباب ليست حقيقية، وإنما هناك قلة في التربية وأزمة في الأخلاق وابتعاد عن الدين وتعاليمه. وفي النهاية التربية لها انعكاسها، ومن هنا يأتي دور الدولة في تماسك المجتمع الجامعي.
وتضيف أن من أسبابها المشكلة التفكير السلطوي، ونصحت بضرورة أن يعمل المجتمع من خلال استراتيجية للتغلب على هذه الظاهرة والقضاء عليها، وذلك من خلال نقطتين، الأولى طويلة المدى، تقوم على القضاء على الأسباب السابقة الذكر، والثانية قصيرة المدى تقوم على الجزاء الرادع لمن يقوم بمثل هذا التصرف.
خوف ورهبة
في حين تستعرض د. (منال حسن أحمد) اختصاصي الطب النفسي الوضع النفسي للطالبات تحديداً المتعرضات للابتزاز فإن العديد منهن يخشين المجتمع والفضيحة وقد تحرج الواحدة من الإبلاغ عما تتعرض له بسبب التمييز الذكوريً، فدائماً المجتمع يصدق الرجل ويلوم المرأة، وهذا هو العرف السائد تكذيب الضحية وتصديق وتمجيد الطرف المتورط في العملية، ويتبع ذلك بحسب د. (منال) تشويه السمعة والفصل من الجامعة دون ارتكاب أي خطأ، وهذا ينعكس سلباً على الحالة النفسية للطالبة وغيرها من بنات جنسها.
وتستطرد بالقول: البعض الآخر يقبل بهذا الابتزاز وينساق وراء تحقيق الأهداف، وهذا هو نتاج المجتمع والتربية غير السوية والابتعاد عن الوازع الديني. وختمت منوهة إلى أن مثل هؤلا الأفراد بالتأكيد نتاج مرض مصابون بخلل اجتماعي ونفسي سواء في الأسرة أو غيرها مما يستدعي محاربة الحالات قبل أن تتحول إلى ظاهرة، وذلك بتكاتف الجهود كافة.
ختاماً
حاولت (الصحيفة) عرض إحصائيات مثبتة ومدونة في دفاتر الشرطة وطافت عدد من المحاكم بأم درمان والخرطوم وسألت بعض من مصادرها في الشرطة ولكن وبالرغم من كل الذي ذكر، لم تدون المحاكم أي قضية لتحرش (جنسي) أو ابتزاز واستغلال غير مشروع تضرر منه فرد ما، سواء كان أستاذاً جامعياً أو طالبة.
تحقيق: إنتصار فضل الله
الصيحة