لم تكن مصادفة عابرة أن يتحالف مركزا المركز المتمثلان في الزعيمين التاريخيين عمارة دنقس وعبدالله جماع ليكونا في الزمان الغابر بل في عمق التاريخ وتحديداً في بداية القرن السادس عشر الميلادي .. لم تكن صدفة أن يتحالفا ليكونا مركز الدولة السودانية الحديثة حول النيل والذي نشأ ليشد أطراف السودان جميعها إلى ذلك الثقل الحضاري ليكوّن ويشكّل دولة السودان الحديثة القائمة على خليط متنوع يضم ثلاثة عناصر أساسية هي الإسلام الذي ينتمي إليه أكثر من 90 % من الشعب السوداني مع المكونين العربي والأفريقي ومع سيادة اللغة العربية كلغة قومية للدولة السودانية الحديثة.
ولم تكن مصادفة أن يأتي انهيار مركز الدولة السودانية ممثلة في مملكة سنار بعد أكثر من ثلاثة قرون من الزمان وتحديداً في عام 1821 ، على يد المستعمر الأجنبي القادم من الشمال والذي لم يأت حاملاً خيراً يُهديه إلى أهل البلاد إنما جاء طامعاً يبغي التوسع في أرجائها ونهب خيراتها والاستقواء بها في حروبه الاستعمارية البغيضة.
كذلك لم تكن صدفة أن يأتي أكبر مهدد لذلك المركز من تلقاء الجنوب على يد رجل غريب الوجه واليد واللسان على هوية وثقافة ذلك المركز هو جون قرنق الذي شاء المستعمر الانجليزي وقرر ، بمؤامرة خسيسة ، ضم شعبه إلى الدولة السودانية التي ورثت مكونات وهوية الدولة السنارية ثم جاء قرنق بمشروع تفكيك وإعادة هيكلة تلك الدولة ليُقيم على انقاضها ،عن طريق الإحلال والإبدال ، مسخاً مشوهاً يقوم على الأفريقانية الخالصة على حساب هوية دولة السودان الحالية مستلهماً في ذلك ما حدث في جنوب أفريقيا التي كانت محكومة بنظام الفصل العنصري فقد ظل قرنق يسوق تلك النظرية باعتبار أن السودان خضع لاستعمار عربي إسلامي مماثل للاستعمار الأبيض الذي حكم شعب جنوب أفريقيا وتأسى قرنق كذلك بالثورة التي حدثت في تنزانيا عام 1964 والتي قتلت عشرات الآلاف من العرب في زنجبار والتي كان شاهداً عليها أيام كان طالباً فيها فقد كانت زنجبار محكومة بأقلية عربية أطيح بها في تلك الثورة قبل أن تتكون تنزانيا.
أود أن اتخذ من تلك المقدمة أساسا وإطاراً عاماً للحديث عن الصراع الحضاري الدائر في السودان منذ أن اندلع تمرد قرنق عام 1983 فقد اختلف ذلك التمرد الجنوبي عن سابقه الذي اشتعل في عام 1955 في توريت وبعض المدن والمراكز الأخرى في جنوب السودان فقد ثار أبناء الجنوب في الغالب طلباً للانفصال عن الشمال كما ثبت من خلال مؤتمر جوبا الذي عقده السكرتير الإداري الاستعماري جيمس روبرتسون عام 1947 ليُشرعن الوحدة بين الشمال والجنوب ثم اعترف فيما بعد بأنه زوّر قرارات ذلك المؤتمر لتُفضي إلى رغبة الجنوب في التوحد مع الشمال وحتى عندما استقل السودان عام 1956 لم يحتفل الجنوب مع الشمال إنما قالت قيادات الجنوب ونخبه : (لقد استبدلنا سيداً بسيد) ولم يحتفلوا أو يسموا يوماً للاستقلال إلا عندما خرجوا من السودان عام 2011 أما تمرد قرنق فقد قام لهدف آخر غير ذلك الذي ثار الجنوبيون من أجله فقد سار قرنق في طريق ثوار جنوب أفريقيا وروديسيا البيضاء وتنزانيا الذين سعوا إلى تحرير دولهم من سيطرة الأقليات الحاكمة وسمى حركته بالحركة الشعبية (لتحرير السودان) والتي لم تخف توجهاتها بل سارت بها بين الأفارقة مبشرة بثورة تقتلع المستعمرين العرب كما اقتلعت استعمار الأقليات العرقية التي حكمت تلك الدول الأفريقية وأعلنت حركة قرنق من أجل تحقيق ذلك الهدف مشروع السودان الجديد وعن اسمها المعبر عن توجهاتها (للتحرير) من الهوية الحضارية الغالبة التي ترسخت على امتداد الوسط النيلي من الشمال الأقصى إلى نهاية حدود ولاية النيل الأبيض جنوباً .
ضمن قرنق تلك التوجهات العنصرية في دستوره الذي لم يخف هدفه ولا مبررات مشروعه ووجد تأييداً كبيراً من أفريقيا جنوب الصحراء المنفعلة بالهوية الأفريقانية وبالتحرر من الاستعمار كما وجد دعماً هائلاً بالسلاح من بعض الدول العربية مثل ليبيا القذافي ومن مصر خاصة إبان نشوء التوترات السياسية بين النظامين الحاكمين في الدولتين ولم تكن مصر وليبيا تكترثان كثيراً أو تفرقان بين الاستراتيجي والتكتيكي أو بين الثابت والمتغير بل كانتا تنظران تحت قدميهما متجاهلتين ما ينطوي عليه مشروع قرنق الذي كان يسعى إلى اخراج السودان واقتلاعه من محيطه العربي الإسلامي وتغيير هويته بصورة دائمة.
كذلك وجد قرنق تأييداً من أوروبا وأمريكا التي بلغ العداء ببعض تياراتها ، مثل المحافظين الجدد ، درجة توجيه الاتهام لقبائل شمالية معينة ذكرت بالاسم ، في جلسات استماع عقدت في الكونجرس الأمريكي!
أما الداخل فقد تصدت بعض القوى والأحزاب السياسية خاصة من قبائل اليسار والشيوعيين لدعم قرنق والانخراط في تحالفات داعمة ومساندة له بينما صمتت كثير من النخب عن التعرض للطروحات العنصرية التي انطوى عليها مشروع قرنق الاستئصالي.
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة