رغم هجرة كوادرها، لم نكن نعاني من أزمة التخدير في السنوات الفائتة .. بفضل عباقرتها، كانت وزارة المالية قد نجحت في سد العجز بعد هجرة كوادر التخدير.. وأروع ما في الأمر، لقد تجاوز جهد وزارة المالية تخدير مرضى البلد إلى تخدير كل سًكان البلد، بمثل هذا التصريح : (وصلت تدفقات ودائع مالية سيتم ضخها للمصارف، وإتخاذ إجراءات من شأنها أن تؤدي إلى انخفاض سعر العملات الأجنبية)، د. عبد الرحمن ضرار، وزير الدولة بالمالية، لكل صحف البارحة ..!!
:: ولوزارة المالية نحكي الحكاية التالية : ..القرية نائية، ومهجورة ومعزولة عن قرى العالم .. وفقيرة للغاية، وبلا موارد تفي الفصل الأول .. وكل من فيها – حاكماً كان أو محكوماً- مديون.. ومن وطأة البؤس يكاد أن يقتات أهلها من بيوت النمل ..وفجأة، ذات صيف، تفاجأت القرية بسائح عابر قصد أن ينام ليلة بالفندق المتهالك .. وعند موظف الإستقبال، يضع السائح حقيبته ومائة دولار كأمانة، ويستلم مفتاح الغرفة ليتفقد حال الغرفة والفندق، قبل أن يقرر البقاء..
:: ويستغل موظف إستقبال الفندق فرصة تجوال السائح ما بين الغرفة، ويسرق المائة دولار ويهرول بها إلى حيث جزار القرية، ليخصمها من ديون الجزارة التي تثقل كاهل الموظف .. يفرح جزار القرية بالمائة دولار، ويشكر موظف الفندق ، ثم يهرول بها إلى تاجر المواشي ليسدد ما عليه من ديون بطرف التاجر .. ويحتفي تاجر المواشي بالمائة دولار، ويشكر الجزار، ثم يهرول بها إلى تاجر العلف ليسدد بها ديونه..
:: ويفرح تاجر العلف بالمائة دولار، ويشكر تاجر المواشي، ثم يهرول بها إلى وسط القرية.. وهناك، تقيم فتاة الليل التي تقدم خدماتها لتاجر العلف وآخرين بنظام (التقسيط المريح)، و تفرح بالمائة دولار التي جاء بها تاجر العلف، وتشكره عليها.. وبعد الشكر، تركض الفتاة بالمائة دولار إلى فندق القرية، إذ هي تستأجر غرفة بالفندق لخدمة تاجر العلف وغيره من الزبائن، وعليها ديون متأخرة يجب سدادها..
:: وعند إستقبال الفندق، تجد الفتاة موظف الإستقبال الذي سرق المائة دولار من حقيبة السائح، وتسلمه (نفس المية دولار).. ويستلمها الموظف ويعيدها إلى حقيبة السائح.. وبعد الإعادة بثوان، يعود السائح من رحلة التجوال وتفقد غرف الفندق، ويحمل حقيبته ويغادر القرية، أي لم يعجبه حال الفندق وغرفه المتهالكة..نعم، لم يكسب سكان القرية المائة دولار..لا موظف الفندق، ولا الجزار، ولا تاجر العلف، ولا فتاة الليل .. ولكنهم – جميعاً – سددوا بها ديونهم لبعضهم..!!
:: رواة تلك الحكاية، وهم كُثر، أكدوا أن صندوق النقد الدولي يدير إقتصاد بعض دول العالم الثالث – والأخير طبعاً- بذاك النهج.. ولكن المراقب للحال الإقتصادي لدولتنا و أمثالها، يكتشف أن الأنظمة التي تدمن القروض وتعشق الودائع أيضا تدير اقتصاد شعوبها – ذات الموارد الطبيعية غير المستغلة – بذات (النهج غير القويم )، أي بالنهج الذي لايحقق ربحاً للمواطن، ولا عائداً للوطن، ولا إستقراراً للمجتمع..!!
:: فالودائع، ما لم تُزرع في الأرض لتنتج وتصدر، أو توضع في المصانع لتصنع وتصدر، فهي مجرد وريقات تلف وتدور حول نفسها وبلا أي جدوى في حياة الناس، أي هي محض وسيلة من وسائل التخدير وليس العلاج ..ولكن للأسف، من وحي ودائع وقروض ومنح سابقة لم تنتج ولم تصنع ولم تصدر ولم تًقزم الدولار، فان أخبار الودائع الحالية لن تُخدًر العقول بحيث لا تشعر النفوس بآلام الواقع..وعليه، فأن وزارة المالية مطالبة بوسيلة تخدير أخرى ..!!
الطاهر ساتي