هدف ثابت ظللنا نكدح السنوات الطوال في سبيل تحقيقه.. أن تنعم بلادنا بالأمن والأمان والسلم والسلام، فإن كانت السياسة بتقلّباتها وعجرها وبجرها وأخطائها الكارثية قد حرمتنا من نعمة العيش الكريم فما أقل من أن ينعم المواطن بالسلام الاجتماعي الذي يقتضي أن تنتهي جميع مظاهر العنف والخروج على القانون من الجميع أفراداً وجماعات.
ذلك الهدف الثابت الذي ظللنا ننصبه أمامنا هو الذي جعلنا نرفض بقوة كل التمرّدات التي اجتاحت بلادنا منذ ما قبل الاستقلال سواء في جنوب السودان قبل الانفصال الحميد أو في دارفور أو شرق السودان أو أحداث الإثنين الأسود أو محاولة غزو أم درمان وحتى في المواجهات القبلية أو تمرّدات طلاب الحركات المسلحة التي عصفت باستقرار الجامعات أو الغضبات الفردية التي تحمل المواطن على تجاوز القانون والخروج على النظام.
أقول هذا بين يدي خبر اقتحام أحد رجال الشرطة اجتماعًا لمجلس تشريعي ولاية الخرطوم حضره النائب الأول ورئيس الوزراء بكري حسن صالح وقيامه برفع صوته بالاحتجاج الصارخ داخل المجلس فارضاً نفسه على الجميع ليشكو والي الخرطوم بقوله إن كشكاً يمتلكه قد أزيل وذرف الرجل الدموع الغالية تعبيراً عن (مظلمته) شاكياً أنه لم يجد الإنصاف رغم صبره الجميل.
في اليوم التالي امتلأت معظم الصحف بخبر الرجل مانحة الحدث مانشيتات حمراء !
لو كانت الصحف قد أولت الأمر اهتماماً من زاوية أنه يشبه خبر (عض الرجل كلباً) الأثير في علم الإعلام والصحافة لما علّقت عليه، ولكن العكس هو الصحيح، فقد تبارى كبار الكتّاب في الدفاع عن الشرطي سيما بعد أن أُعفي من الخدمة جراء خروجه على نظم الضبط والربط التي تعتبر من ثوابت العمل العسكري.
صحيح أن بعض الكتاب أدان مخالفة الرجل قواعد الانضباط الحاكمة للسلوك العسكري ولكن الجميع تباروا في الانحياز للرجل من منطلق عاطفي وإنساني بحجة أنه مظلوم !
أجدني مختلفاً تماماً عن الذين انحازوا إلى ذلك الرجل وطالبوا الوالي بل والنائب الأول بالتدخل لإنصافه !
تخيلوا بالله عليكم ما يمكن أن يحدث لو نجحت تلك الواقعة بتلك الكيفية في تحقيق ما ثار الشرطي من أجله وتمكّن من انتزاع حقه (المزعوم) في نفس لحظة غضبته المضرية وصراخه أمام الوالي والنائب الأول.. بالقطع فإنها ستكون بمثابة دعوة للجميع لاقتحام كل الاجتماعات الرسمية ولن يجتمع بعدها مجلس تشريعي أو مجلس وزراء أو اجتماع يحضره مسؤولون في ولاية أو محلية أو غير ذلك إلا وحوله عشرات وربما مئات المقتحمين الساعين إلى فرض أنفسهم وانتزاع مطالبهم بذات الصورة التي أكدت جدواها كأفضل وأقصر طريق لتحقيق المطالب!
ربما يقول قائل إن الطرق الأخرى موصدة كما اتضح من قضية ذلك الشرطي، ولكن هل البديل أن يعمد الناس إلى تلك الوسيلة أم المطالبة بتصحيح الخطأ الذي أغلق الأبواب أمام ذلك الرجل، ثم من يستطيع أن يجزم بصحة كل ما ادعاه ذلك الشرطي، ونحن لم نطّلع على رد من الجهة التي (انتزعت) الكشك أو أوصدت الأبواب أمام شكوى الرجل؟
كان الأولى بالإخوة الذين تعاطفوا مع ذلك الشرطي أن يطلعوا على القضية التي ثار من أجلها الرجل ومن ثم يستخدموا علاقاتهم في نقل شكواه إلى الجهات المختصة بدلاً من التحريض على التمرد والخروج على القانون والنظم المرعية خاصة عندما يتعلق الأمر برجال الشرطة الذين يكبر جرم خروجهم على التقاليد والضوابط العسكرية الصارمة.
ثمة مقترح أو حل آخر ينبغي أن يتقدم على ما عداه من طروحات في معالجة قضية الشرطي الخارج على قواعد الضبط والربط سيما وأن من كتبوا حول الأمر غلب عليهم الجانب العاطفي والإنساني، وهو أن يتبنوا حل مشكلة الشرطي خاصة بعد فقدانه وظيفته جراء خطئه الفادح، وليت من تصدّوا للقضية، ونحن منهم، يجتمعون أو يتشاورون حول الأمر فإيقاد شمعة تضيء مستقبل ذلك الرجل المتظلم خير من لعن الظلام المتمثل في التعاطف مع شرطي خرج على كل قواعد الضبط والربط وأحدث تهديدًا كان من الممكن أن يتطور إلى الأسوأ إن كان الرجل لحظة اقتحامه ذلك الاجتماع حاملاً سلاحًا وهو في تلك الحالة الهستيرية غير السوية.
أجدني اختلف مع كثير ممن تخرجهم معارضتهم السياسية عن جادة الحق والعدل المطلق، ولذلك شدّد القرآن على القوامة بالقسط والشهادة لله ولو على النفس وألا يحمل المرء بغضه للآخر على عدم تحري العدل :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
أقول هذا وأنا أستغرب تعاطف بعض (المناضلين) من قوى المعارضة مع من قتلوا رجال الشرطة في جامعة بخت الرضا وأحرقوا كلية التربية وخربوا ودمروا .
آلمني أكثر أن اصطفافاً جهوياً حدث في القضية، وقد أشعرني ذلك أننا أبعد ما نكون عن إقامة دولة الحكم الراشد التي لن تقوم ما لم تحتكم السياسةُ والسياسيون إلى الأخلاق وما لم نجرد السياسة من القذارة التي أثرت على مسيرة السودان السياسية وأخشى على بلادنا من مستقبل تحفه كل مشاعر التباغض والتناحر والعصبيات الضيقة التي تعلي من الولاءات الصغيرة على حساب الولاء الأكبر للوطن وقبل ذلك الولاء لدين الله رب العالمين.
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة