غرامة السبعة مليارات دولار على السودان التي قررتها محكمة الاستئناف الإتحادية الأمريكية، بسبب ادعاء المحكمة في ضلوع السودان في تفجيرات سفارتي أمريكا في نيروبي ودار السلام في 7 أغسطس 1998م بواسطة تنظيم القاعدة، مما أدى الى مقتل 200 شخص بينهم 12 أمريكياً، بعد أن اعتمدت المحكمة شهادات الخبراء بأن السودان واصل دعمه لتنظيم القاعدة، بالرغم من خروج بن لادن من السودن عام 1996م أي قبل سنتين من التفجيرات، وأيدت محكمة الاستئناف الاتحادية حكم دائرة العاصمة واشنطن القاضي بأن السودان مسؤول عن التفجيرات، وكانت محكمة واشنطن قد قضت بالغرامة (10.2) مليار دولار، ولكن محكمة الاستئناف قررت إلغاء التعويض العقابي واكتفت بغرامة (7,3) مليار دولار عن الأضرار.. بدأت الدعوى القضائية ضد السودان في عام 2001م ولم يظهر ممثلو الحكومة أمام المحكمة منذ2004م حتى 2009م، حين توقفت الحكومة وظلت دون تمثيل في المحكمة حتى 2015م لتقضي المحكمة بأن حكومة السودان فشلت في الظهور وأصدرت حكمها.. استأجرت الحكومة عام 2015 شركة محاماة كبيرة (وايت وكيس)، التي قدمت استئنافاً لإسقاط الحكم الإبتدائي- (محكمة واشنطن)- متعللة بأن حكومة السودان لم تكن تعرف الإجراءات القضائية الأمريكية، وأنها كانت مشغولة بالكوارث والحروب المحلية، لذلك أيدت محكمة الإستئناف حكم محكمة واشنطن وأوردت أنه لا يمكن أن يُعذر السودان عن عدم المشاركة لمدة ست سنوات على الأقل دون ارسال رسالة واحدة الى المحكمة، على كل حال الحكم صدر في مرحلته النهائية، وهو بذلك يعتبر عبئاً إضافياً لديون السودان الخارجية البالغة حوالي 50 مليار دولار لا يقوى السودان على سدادها قريباً.. وفي ذلك تحضرني طرفة حقيقية وقعت لأسرة فقيرة مكونة من رجل وزوجته.. الرجل كان يعمل (مكوجي) في حي من أحياء أم درمان العريقة، يستأجر منزلاً متواضعاً يسكن ويؤدي عمله فيه.. أخرجهم صاحب المنزل ووجدوا منزلاً آخر بالقرب منه.. قرر الرجل أن يرحِّل عفشه المتواضع بنفسه.. طلب من زوجته وضع العفش وباقي الأشياء في (العنقريب) جالساً تحته ليحمله على ظهره.. بدأت الزوجة في وضع العفش والأشياء الأخرى، وكان في كل مرة يرفع (العنقريب) بظهره ليتأكد من من أنه يستطيع حمله، وفي آخر قطعة من العفش وضعتها زوجته تأكد له بعد التجربة أنه لا يقوى على حمله، نادت عليه زوجته في عجل أن ينتظر برهة لأنها نسيت أن تضع (الزير والحمّالة) قال لها ختيهم (أصلي ماني قايم).. يعني (ما فارقة معاهو) لأنه بهم أو بدونهم لن يستطيع حمل (العنقريب)- السودان أيضاً مثله لا يستطيع مقابلة الديون بالسبعة مليارات أو بدونها.لكن المزعج جداً في هذا الحكم، الذي ستكون آثاره ممتدة لأنه صدر في مرحلة متقدمة من مراحل القضاء الأمريكي، وأصبح ملزماً يحمل في طياته إدانة كاملة للسودان بدعم الإرهاب، مما قد يمتد أثره على قرار الرئيس ترامب في أكتوبر بالإبقاء على العقوبات الإقتصادية أو رفعها، ويؤثر أيضاً على الاقتصاد السوداني المتدهور، وذلك باستحالة إجراء المعاملات البنكية العالمية بعد أن تصدر المحكمة توجيهاً بتنفيذ الحكم، لأن البنوك العالمية تتخوف من العقوبات المالية والغرامات الأمريكية الباهظة، مثل ما حدث للبنوك الفرنسية قبل أعوام قليلة في تعاملها مع السودان.. عليه سوف يزداد الخناق الإقتصادي على السودان وتحجم الدول والبنوك عن تقديم المنح والقروض له.. كل ذلك والإقتصاد السوداني يعاني من تدهور مريع بسبب إحجام الدول (حتى الصديقة) عن تقديم قروض أو منح عاجلة كبيرة في ظل العجز المتنامي في الميزان التجاري (الصادر-الوارد)، إذ يشير كتاب الحقائق الدوري لوكالة المخابرات الأمريكية لهذا العام أن الصادرات السودانية للعام 2016 بلغت 3,7 مليار دولار والواردات بلغت 9.3 مليار دولار، أي عجز يبلغ 5.6 مليار دولار.. ويشير كتاب الـ(CIA) هذا الى أن ميزانية السودان لعام 2016م بلغت 7.3 مليار دولار في بند الدخل، و11.3 مليار في بند المصروفات أي عجز 4 مليارات دولار.على أرض الواقع الإقتصاد صامد في كل هذه الظروف حتى الآن.. في اعتقادي أن هذه الفجوة الآن تُغطى بما يعرف بالاقتصاد الخفي (Hidden Economy) والذي تتمثل مصادر الدخل فيه من تحويلات المغتربين خارج النظام المصرفي الرسمي، غسيل الأموال من المخدرات وخلافها، تمويل منظمات ومجموعات وحركات مسلحة وغير مسلحة وأنشطة سرية أخرى.. الاقتصاد الخفي في دول كثيرة مثل حالنا يمثل ما لا يزيد عن 25% من الميزانية، لكن بأرقام الـ(CIA) التي أوردناها فإنه يمثل في السودان حوالي 35% وهي نسبة بكل المقاييس عالية جداً، تصيب الاقتصاد السوداني بداء مثل السرطان الذي يؤدي الى انهياره الكامل، وتعم الفوضى غير الخلاقة المؤدية الى انفلات الأمن والاستقرار في السودان، والذي تتمناه وتسعى اليه دول في جوارنا الشمالي والشمالي الغربي- مصر وليبيا- ليبيا ستشكل خطراً داهماً علينا إذا آلت السلطة كاملة الى اللواء خليفة حفتر المدعوم من مصر.. إزاء هذا المهدد الاقتصادي يتعين على النظام الحاكم تنفيذ خارطة الطريق التالية عاجلاً:أولاً: تحديد قاطع للوقوف مع محور واحد إما السعودية- الامارات أو قطر وكلا المحورين قادر اقتصادياً على الدعم الفوري العاجل الكبير متى ما أعلن النظام انحيازه اليه.ثانياً: إعداد دراسات اقتصادية عاجلة عن تكلفة إعادة تأهيل مشروع الجزيرة، مشروع جبال النوبة، السكة الحديد، الخطوط الجوية، الخطوط البحرية وميناء بورتسودان، تقدم الى حكومات أو مؤسسات أو شركات دول المحور الذي نختاره إذ أن كل محور له مكونات أخرى، مثلاً محور قطر يضم كلا من تركيا وإيران وروسيا والصين- محور السعودية يضم أمريكا وانجلترا وألمانيا.ثالثاً: طرح مشروعات استغلال ثروات السودان الحيوانية والسمكية والصمغ العربي والمعادن والبترول، إضافة الى المطار الجديد بصورة علمية جاذبة للمستثمرين في المحور الذي نختار، على أن يتم الاستثمار فيها بنظام البوت (Boot) –(Build,Own,Operate,Transfer) إنشاء، تملك، تشغيل ثم تحويل كامل لحكومة السودان بعد فترة زمنية يتفق عليها.. هذا النظام لا يتطلب رأسمال ويستغرق وقتاً قصيراً، وخلال سريان الإتفاق قبل التحويل ستكون هناك عائدات سنوية مجزية للسودان.رابعاً: المصالحة الوطنية الشاملة مع كل المجموعات والتنظيمات المؤثرة فعلاً في عدم الاستقرار وبسط الحريات وتأكيد التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة.خامساً: العمل الجاد للتطبيع الكامل مع أمريكا وانجلترا وفرنسا وألمانيا، وإعادة الوحدة مع دولة الجنوب، في شراكة ذكية تضمن خصوصية كل دولة، وتضمن إعادة تشغيل آبار البترول وتصديره عبر السودان بمعدلاته السابقة، في حدود خمسمائة ألف برميل في اليوم، إذ سيعم السلام في دولة الجنوب فور دخول قوات سودانية موحدة فيه.. كل ذلك عملاً بالمقولة المنطقية إنه لا توجد صداقات أو عداوات دائمة بل توجد مصالح دائمة متجددة.
تقرير : عمر البكري ابو حراز
اخر لحظة