ما بين قبيلتين

نتابع ما يجري في ولاية شرق دارفور بين قبيلتي الرزيقات والمعاليا، ونحن في رواندا الدولة التي شهدت قبل ثلاث وعشرين سنة أبشع أنواع الصراع القبلي والعرقي في إفريقيا،

وارتكبت فيها أفظع المذابح والإبادة الجماعية، ففي عام ١٩٩٤م حين أنشبت الحرب أظفارها ودق عطر منشم بين قبلتي الهوتو والتوتسي في رواندا، قتل ما يزيد عن مليون شخص جلهم من التوتسي، واندلعت الحرب اللعينة التي عصفت بالسلام الاجتماعي ووحدة الشعب الرواندي، لكن بعد أن هدأت الجائحة واستقرت الأوضاع تحولت رواندا إلى بلد آخر.

> وودعت هذه الدولة الإفريقية الصغيرة الحجم المكونة من قبيلتين هما الهوتو الأكثرية والتوتسي الأقلية، ودعت الحرب وحققت المصالحات التاريخية، وتعاملت الدولة التي قامت على ركام من رماد وأشلاء وحريق، بحزم وحسم وحكمة حتى طبقت القانون وأرست دعائم العدل والتصالح والتسامح وطبقت أرفع أنواع العدالة الانتقالية، وانتهت فيها روح التعصب العرقي والقبلي، وانتهجت الحكومة الرواندية منذ ذاك التاريخ أساليب متنوعة وناجعة في إنهاء الشعور القبلي السالب، واتخذت تدابير شديدة الصرامة والتشدد جعلت من الاحتراب القبلي والصراع والتنازع على أساس العرق أو الاصطفاف خلف القبيلة شيئاً من الماضي، ولم تعد رواندا أسيرة ماضيها فقد ولدت من جديد، وهي اليوم أسرع الاقتصادات الإفريقية نمواً، ومن الأسواق الصاعدة، والبلد رقم واحد في تنظيم المؤتمرات والاستفادة من المنح والقروض، بجانب السياحة وتطوير الموارد الذاتية، وهي أنظف الأقطار في العالم لاهتمام شعبها بالنظافة والنظام والتطور في مجال التعليم وترقية الخدمات وسلامة البيئة وخفض نسب التلوث ومحاربة الفقر وتنمية المجتمعات الصغيرة، فلريثما تمر سنوات قليلة قادمة سنجد رواندا تجلس في مكان متقدم في قمة العالم المتحضر.

> في هذه الأجواء التي نرى فيها بلداً إفريقياً يخرج من دائرة الموت والقتال والصراع والتخلف، إلى باحة التطور والازدهار الاقتصادي والاجتماعي، ويغلق بوابة الماضية الكئيب المليء بالمقابح والمذابح، نتسامع بتجدد الصراع في شرق دارفور بين قبيلتي الرزيقات والمعاليا، وهو أنموذج شديد القبح والانحدار للخلافات القبلية في قارتنا الإفريقية، صراع يستند ويتكئ على الماضي لا أكثر، تحركه شحناء قبلية وتنازع حول أرض لا تفيد كثيراً من تؤول إليه ممن يقول بملكيته لها، لأنه لن يقتلع ساكنيها ليقذف بهم إلى العدم والفراغ، ولن تنفع من يقطنها اليوم لأنها لن تغير من الواقع والحقيقة شيئاً، والواقع هو أن الرزيقات والمعاليا إخوة يعيشون معاً تصاهروا .. تمازجوا .. تعاونوا ..تجاوروا مُذ تلاقوا … فلما وقعت بينهم الفتنة والبغضاء منذ ستينيات القرن الماضي عام ١٩٦٧م، تحولت العلاقة بينهم إلى نذير شؤم لدى كل أهل السودان، فعلت لهجة التعصب وتنامت لغة الحقد وحلت لعنة الأرض التي فرقت بين المرء وزوجه وبين الابن وأبيه!!
> هذا الصراع المجنون، لا قيمة له سوى أنه طيش وتخلف في وقت يلملم فيه كل العالم وشعوبه وخاصة إفريقيا السمراء رداء القبلية المهترئ ويلقيه في النار بعيداً ثم يذر رماده في الهواء.

> لقد فشلت كل المحاولات السابقة من مؤتمرات صلح وتحركات أجاويد ووسطاء وتعامل الدولة الرفيق، وجاءت لحظة الحسم والحزم، فإجراءات الدولة الحالية بجمع السلاح والقبض على مسؤولي النظام الأهلي الواقفين بعجزهم في مستنقع الفتنة أو المحرضين ومشعلي نيران ولهيب الفتنة وجمع السلاح من المتقاتلين، هي إجراءات وتدابير لا بد من المضي قُدماً فيها بقوة، حتى يتحقق الأمن وتحقن الدماء، وحتى يفهم الأهل أن زمن الصراع والصراخ والحرب والدمار والخراب وأنهار الدماء قد ولى، ولنا في تجربة رواندا عظة وعبرة.

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة

Exit mobile version