لا تستطيع أن تتخيل أن بني آدم من لحم ودم ومشاعر يتحمل شتى صنوف التعذيب دون أن يرتجف ويتاوه، أويستعطف جلاديه، أو يتلبسه الخوف، رجل من غِمار السودانيين يفعل ذلك، يفعل ذلك بمنتهى البسالة، بمنتهى الشجاعة، وميليشيا عراقية شبه رسمية في منتهى الصلف والسادية تتلذ بركله، وكي ذقنه بالنار وتشعل في رأسه الزناد! شرطة بلا رحمة ولا خُلق تعذب بالنار رجل أعزل، لمجرد أنه سوداني، وتلوح بفصوص الذخيرة الحارقة وأعقاب البنادق عند منحنى رقبته فينتصب شامخاً، يتناوبون على موسى البشير، ليوهن تحتهم، فيفضح بشاعتهم وجبنهم وخستهم، لم يمسح حتى أثر الحرق بيده .. كل ما قاله عندما كثر عليه الضرب ” لا إله إلا الله” .. لك الله يا موسى يا عنوان فجيعتنا
وقع الأسمر الصنديد تحت يد جماعة من الأنذال، غرتهم كثرتهم، وكونهم مدججين بالسلاح ومع ذاك لم يترجاهم أن يتركوه، أو يرحموه، فهو حفيد أبطال جابهوا بكل ضراوة مدافع هكس الجبلية، ونفثت صدورهم دخان المكسيم، لم يقل (أهٍ) ورجله مصابة بطلق ناري، كله مُصاب .. لم يقل لهم أرجوكم أحموني، سوف أفعل ما تطلبوه مني، ولن يفعلها بالطبع لو تفتت شظايا من اللحم والعظم، لن ينكسر ابداً
موسى متزوج من عراقية ومقيم في الموصل منذ الثمانينيات، أوقعه حظه العاثر ما بين فَحش داعش وتفحش الشرطة العراقية، دخلوا عليه حيث يقيم مع زوجته وروعوا أطفاله، وحملوه إلى الميدان ليكون فُرجة للمارة، ومشهداً للرعب، طريحا تحت أحذية العساكر الثقيلة، أو تحت وقع السياط وحرارة الصخور مثل بلال إبن رباح، واستعادة لميتة عبد الله إبن المقفع عندما قال حاكم البصرة سفيان إبن معاوية «والله لأقطعنه إرباً إرباً وعينه تنظر». ففعل ذلك وعاش (كليلة ودمنة) يتجدد مع العصور .
سيدي لك التحية والاجلال، يا موسى، يا حفيد الكنداكات والمهدي الإمام وعلي عبد اللطيف ومحمود محمد طه .. ما هذه الصلابة؟ وما تلك القوة التي تتمتع بها؟ ما تلك الشجاعة يا موسى؟ تحيط بك ثُلة من الوحوش، تمزق جسدك وعينك تنظر، وعيوننا تدمع، وأنت صامد في أعنف اختبار لمعدن السودانيين، تتجرد من كل ضعف وهوان، متلمسا لنفسك رجالة لا يفلها حتى الحديد، إبن من أنت يا موسى؟ ومن أي طينة خُلقت؟ كيف لا تصرخ ووجهك ملطخ بالدم، كيف تحتمل كل هذه الألام ولا تتألم، وجسدك يئن تحت وقع السياط والكفوف والرصاص والنار والتكالب، وأنت تصيح في وجه السفارة ورهط الدستورين وجهاز المغتربين مثل فارس المهدية الأمير إبراهيم الخليل ” الخير في ما اختاره الله، نحن قًدنا بنسدو، إلا نصرة مافي .. مافي” .
بقلم
عزمي عبد الرازق