تؤكد كل الدراسات الإحصائية أن الإسلام، اليوم أكثر الديانات والمناهج الحياتية الأيديولوجية سرعة وانتشاراً، وتمدداً، واستقطاباً للعقول والإرادات
إننا لا نرتاب في أن ما حصل في مصر ليس انتكاسة للإسلام السياسي، بقدر ما هو انتكاسة ستجهز على ما تبقى – للأسف – من تراث ليبرالي وقومي عربي علماني
إنه لئن مرت بالإخوان في مصر محن متوالية على يد حكام مصر منذ العهد الملكي، وبالخصوص في العهد الناصري، إلا أنها – كماً ونوعاً – ليست قابلة للمقارنة بما يتعرضون له على يد الفريق السيسي
الإسلام السياسي ليس في حالة تراجع، وإنما هو بصدد إصلاح أخطائه والتهيؤ لطور جديد غير بعيد من الممارسة الأرشد للحكم
الإسلاميون اليوم أكثر من أي وقت مضى، يقفون على أنبل وأصلب موقع، فهم إلى موقع القرب العقدي والمفاهيمي الثقافي من الناس
الحركة الإسلامية في خطها العريض، قدمت الإسلام متمماً لمنجزات ومكارم الحضارات، وليس باعتباره نقيضاً من كل وجه لمنجزات التحديث
زاد المسير
هل فشل الإسلام السياسي حقاً؟
لا شك أن المستقبل للإسلام وأن العلمانية اللادينية في تراجع وإفلاس ولا مستقبل لها إلا أن تستند إلى بطش الطغاة الذين يستنجدون بأصحاب الأموال والكنوز بلا عقل ولا فكر، فهل الأموال تحمي العروش؟ لو كان الأمر كذلك لحمت أموال قارون عرش فرعون . الإسلام سينتصر ومبادئه ستنتشر وسلطان الطغاة سيندحر.وددت لو يشاركني القراء الكرام قراءة ما خطه الشيخ راشد الغنوشي.
اعتاد خبراء غربيون متابعون لمسيرة الحركة الإسلامية كلما تعرض إسلاميون هنا أو هناك لنكسة أو حتى لمجرد تراجع في انتخابات، ولو كان طفيفاً، أن يؤذنوا في العالمين بأعلى مكبرات الصوت، معلنين عن فشل وانهيار ونهاية الإسلام السياسي! وذلك ما يتردد في ندواتهم وأحاديثهم لوسائل الإعلام التي تستنطقهم باعتبارهم خبراء ينطقون بالحكم وفصل المقال!
فما يلبث أمثالهم في بلاد الإسلام وكذا المشتغلون في وسائل إعلامنا أن يتلقوها وكأنها حقائق لا يأتيها الخطأ من بين أيديها ولا من خلفها!!!
ولقد مثل الحدث المصري الأشهر الأخيرة، مادة غزيرة لتلك البحوث والندوات والتأكيدات، فازدهرت هذه السوق وراجت بضاعتها، فما مصداق هذه الدعاوى؟!
هل ما يسمى الإسلام السياسي بصدد التراجع الكبير والمتفاقم في اتجاه الفشل النهائي والانهيار المؤكد؟!أم إن الأمر لا يعدو انعطافات إلى الخلف – هنا أو هناك، تحفزاً لانطلاق جديد في منحنى صاعد في الوجهة العامة، بما يرجح أنه – حتى نقاط التراجع – لن تلبث أن تلتحق بالخط البياني العام المتجه إلى الصعود!
إن الحركة الإسلامية – المصطلح المفضل لدى الإسلاميين – بديلاً عما يسمى الإسلام السياسي،ونعني بها جملة المناشط التي تدعو إلى الإسلام، باعتباره كلمة الله الأخيرة إلى الناس، ومنهاجاً شاملاً للحياة، وخطاباً للعالمين!
▪هذا الإسلام، تؤكد كل الدراسات الإحصائية أنه اليوم أكثر الديانات والمناهج الحياتية الأيديولوجية سرعة وانتشاراً، وتمدداً، واستقطاباً للعقول والإرادات،▪وأن معتنقيه الأكثر استعداداً للتضحية بكل غال ونفيس من أجله، وغيرة عليه والتزاماً به!
▪إن ما يسمى بالإسلام السياسي (الحركة الإسلامية)، يتحرك فوق بساط ديني هو الأوسع اليوم في العالم، ومكّنته تقنيات الاتصال المعاصر من بلوغ سرعات تمدد غير مسبوقة في التاريخ، لا سيما وهو لا يكاد يجد في طريقه مقاومة تذكر!
بالنظر إلى حالة الخواء العقائدي، والقلق الوجودي، وانهيار المحاضن الدافئة من حول الإنسان في الحضارة المعاصر، كالأسرة والعشيرة!
يحدث هذا في زمن تفاقمَ فيه اتجاه الحكومات إلى الاستقالة المتسارعة من واجبات الرعاية، بما نمّى حالات القلق والعزلة وفقدان الأنيس، كأثر من آثار العلمنة المتسارعة، ودفع الأفراد إلى البحث عن محاضن دافئة، ومنظومات تلتقي فيها:
مطالب الجسد والروح، الفرد والجماعة، الدين والدنيا، الوطنية والأممية، وهذا ما يجده الباحث عن ضالته جميعاً في الإسلام، منظوراً إليه في أصوله الجامعة ووسطيته المعروفة!
وذلك ما يفسر إقبال نخب متفوقة من كل الملل والثقافات على اعتناقه، رغم حرب الكراهية والشيطنة التي تشن عليه وعلى حركاته وأقلياته!
إن الحركة الإسلامية في خطها العريض، – ودعك من الهوامش المتشددة التي لا تخلو منها أيديولوجيا وأمة- قدمت الإسلام متمماً لمنجزات ومكارم الحضارات، وليس باعتباره نقيضاً من كل وجه لمنجزات التحديث، كالتعليم للجميع ذكوراً وإناثاً!
ولقيم العدالة والمساواة حقوقاً وحريات، دون تمييز على أساس الاعتقاد والجنس واللون، وبما يكفل للجميع حقوق المواطنة والإنسانية، والحريات الدينية والسياسية، كما هو متعارف عليه في الديمقراطيات المعاصرة
باعتبار المساواة في الحقوق والحريات تفريعاً لازماً من أصل التكريم الإلهي لبني آدم:
“ولقد كرمنا بني آدم” (الإسراء/70)
إن الحركة الإسلامية؛ وهي تنطلق من مرجعية الإسلام دين الفطرة، بحثاً عن حلول لمشكلات مجتمعاتها، والإسهام في حل مشكلات الإنسانية مستفيدة من كل خبرات حضارية تتوافق مع قيم الإسلام ومقاصده؛ في تحقيق مصالح الناس، هي الأقرب إلى ضمير شعوبنا، تخاطبها بمألوف قيمها ومفاهيمها ولغتها، لا يمكن منافستها – شعبياً، إذا فقه الدعاة مشكلات الناس، وصاغوها وفق البنية الذهنية والعقيدية لهم!
إن الحركات الإسلامية تعرضت خلال أزيد من نصف قرن لمسلسل من القمع، لا يكاد يهدأ قليلاً حتى يستعر أواره أشد مما كان!
لقد أورث القمع المتتالي نتائج كثيرة منها:
أنه رسخ لدى الإسلاميين إرثاً نضالياً توارثوه يشد بعضهم إلى بعض،وتاريخاً مشتركاً نشأت عليه ثلاثة أجيال على الأقل!
كما أثمر القمع الوحشي لهم تعاطفاً شعبياً مع مظلوميتهم، شكل رصيداً إضافياً لمكاسب، مما لا يتوفر مثله لأي منافس سياسي آخر، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم والشعوب تحفظ للمناضلين قدرهم.
إن الإسلاميين اليوم أكثر من أي وقت مضى، يقفون على أنبل وأصلب موقع، فهم إلى موقع القرب العقدي والمفاهيمي الثقافي من الناس، هم يقفون – كما في مصر – يحملون أنبل الشعارات، مثل الدفاع عن إرادة الشعب والاحتكام لصناديق الاقتراع، ويقودون ثورة سلمية رائعة!
تدافع عن قيم الثورة:
حرية الإعلام التي حافظ عليها حكمهم وأهدرها الانقلاب، كما هم يدافعون عن التعددية السياسية وعن قضايا الأمة الكبرى! كقضية فلسطين،بينما في المقابل:
تقف الليبرالية المصرية العريقة – بما فيها حزب الوفد – على أرضية الثورة المضادة،مستنصرين بانقلاب عسكري ذابين عنه!
ودباباته تدوس على صناديق الاقتراع، وتطحن بها إرادة الشعب وحتى أجساده،وتضع يدها على وسائل الإعلام، تكمم أصواتها، وتفتح السجون على مصراعيها، وتضرب الجماهير العزل بالملايين،أما قضية الأمة الكبرى – قضية فلسطين – فقد غدت تهمة كبرى!!!
ألم توجه إلى الرئيس المنتخب تهمة التخابر مع حماس؟!تبريرًا لعزله، وهو الرئيس الأول المنتخب!!! وتزلفاً إلى الكيان الصهيوني!
أو ليس ما تتورط فيه نخبة “الحداثة” المصرية وشبيهاتها العربيات التي صفقت للانقلاب نوعاً من الانتحار الجماعي؟،وذلك مقابل الوقفة المشرفة للحركة الإسلامية في وجه الطغيان، بصدور عارية إلا من الإيمان!
هل يمكن – من وجهة نظر تاريخية وإستراتيجية وقومية – اعتبار الوقوف مع الانقلاب الوحشي انتصارًا ليبرالياً وتقدمياً أو قومياً أو علمانيًا،واعتبار ما حدث هزيمة للإسلام السياسي ونهاية له؟!
إننا لا نرتاب في أن ما حصل في مصر ليس انتكاسة للإسلام السياسي، بقدر ما هو انتكاسة ستجهز على ما تبقى – للأسف – من تراث ليبرالي وقومي عربي علماني،وذلك ما لم يراجعوا مواقفهم ويؤوبوا إلى رشدهم، ومقابل ذلك سيوفر الانقلاب فرصاً للحركة الإسلامية للقيام بمراجعات لتصلح من أخطائها في الحكم، فتكون أكثر انفتاحاً على القوى المعارضة في مصر وفي غيرها! وبالخصوص في مرحلة انتقالية!
لا يمكن أن تحكم بحزب واحد، ولا بتيار واحد، ولا دستورها مقبول أن يكتبه اتجاه واحد،ستدرك الحركة الإسلامية في مصر وغيرها ذلك، فتكون أكثر انفتاحاً على كل القوى الوطنية فاسحة في وجهها المجال، لا للمشاركة الأوسع والتحالف معها – فحسب، بل حتى لتتبوأ مواقع قيادية في الأحزاب الإسلامية،فالإسلام إرث مشترك لكل الأمة!
إنه لئن مرت بالإخوان في مصر محن متوالية على يد حكام مصر منذ العهد الملكي، وبالخصوص في العهد الناصري، إلا أنها – كماً ونوعاً – ليست قابلة للمقارنة بما يتعرضون له على يد الفريق السيسي،فجملة الضحايا خلال ستين سنة لم تتجاوز – كثيراً – ستين شهيدا،وهو رقم أول مصافحة “سيسية” – معهم -أمام القصر الجمهوري!!! وسرعان ما غدا الحديث عن آلاف القتلى والجرحى والمعتقلين،بما له دلالة واضحة على ضعف شرعية الانقلاب، واندفاعه الأهوج نحو تعويض ذلك بالقمع أمام تصاعد المقاومة السلمية البطولية،الفارق بين ما تعرض له الإخوان من قمع ناصري؛ وبين القمع الحالي – من وجهة نظر قيمية- كبير!
لم يضرب عبد الناصر الإخوان بسيف الدولة – وحسب، بل ضربهم – أيضاً – بمشاريع كبيرة حملها لشعبه، وللأمة بصرف النظر عن مدى جدية بعضها على الأقل،لقد كان للقمع الأمني والسياسي غطاء كثيف من المشاريع الحضارية والسياسية التبشيرية المغرية،مثل:
مشروع الإصلاح الزراعي،ونشر التعليم،وتوسيع الأزهر،وتحرير فلسطين،وتوحيد أمة العرب،والتصدي للإمبريالية، وعدم الانحياز،ومقابل ذلك ماذا يحمل السيسي من مشروع لشعبه وللأمة؟،غطاء للقمع الوحشي، بلغ من الخواء الفكري حد اتهام الرئيس الشرعي السجين بالتخابر مع حماس، وفي زمن الفضاءات المفتوحة! تصبح جرائم الطغاة تجري تحت أقوى المجاهر وأسطع الأضواء، بما لم يكن ميسورًا – ولو شيء منه – لفراعنة الزمان القديم الذين كانت جرائمهم تجري تحت طي السر والكتمان!
فكان متاحاً لفرعون موسى أن يقول:”ما أريكم إلا ما أرى” (غافر/29)
فارضاً سلطاناً مطلقاً على شعبه، من خلال سيطرته على المعلومة،لقد انقضى ذلك الزمان، وغدت جرائم الطغاة تتم تحت المجهر،فلا مستقبل للسيسي وأمثاله في عصر الفضاءات المفتوحة،النتيجة:
لكل ما تقدم.. لي أن أؤكد باطمئنان أن الإسلام السياسي لم ينهزم في مصر ولا في غيرها،فعالم الأفكار مفعم بقيم الإسلام على نحو غير مسبوق، منذ غزتنا الحداثة معتلية الدبابات، وهيمنت على عالم النخب، دافعة الإسلام إلى الهامش، مبشرة بمشاريع كبرى خاب معظمها، إن على صعيد الحرية، أو التنمية، أو العدالة والوحدة، أو تحرير فلسطين!
ما أعاد وجدد الحاجة إلى التفكير في الإسلام، والبحث فيه عن مشروع للنهوض، متفاعلاً ومستوعباً، وليس رافضاً لمنجزات الحداثة، بعد استنباتها في حقل الإسلام!
إن ما يسمى بالإسلام السياسي ليس في حالة تراجع، وإنما هو بصدد إصلاح أخطائه والتهيؤ لطور جديد غير بعيد من الممارسة الأرشد للحكم، وإنه لا يحتاج إلى عشرات السنين ليسترجع فرصاً أكبر تنتظره في زمن الفضاءات الإعلامية المفتوحة، وفي مواجهة مشاريع انقلابية عارية من غطاء قيمي وحضاري وسياسي،إنه حركات متجذرة في مجتمعاتها، حاملة لقيم الثورة السلمية الديمقراطية، وقيم المشاركة، بديلاً عن الانفراد في زيجة ناجحة بين قيم الإسلام وقيم الحداثة!
“والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”
(يوسف/21).
محمد حسن طنون
الصيحة