لم يكن لي في السنوات الماضية، علاقة بــ(الواتساب)، لأني لا أحب الهواتف الكبيرة الحجم، وفي نفس الوقت أنا بإستمرار شارد الذهن ومبعثر الذاكرة، وعادة ما أفقد هاتفي مرتين في الشهر بل لا أتذكر أين وضعته. ما أجمل ما قال عالم عباس عن ذاكرته:
وذاكرتي كعاهرة .. تخون عشيقها الأول
لكنني الآن صرت في قلب الواتساب، أصبحت أحد عشاقه المغرمين، وتوزعت على (القروبات) كما تتوزع الشمس على أرجاء الكون. ومنذ إلتحاقي بهذا النشاط، لم أفقد هاتفاً ولم تحمل ذاكرتي، وأصبحت يقظاً ومتأهباً ومشرئباً، وهذا من فضل (الواتساب) علينا.
البارحة، إستمعت لتسجيل صوتي لسيدة من جبال النوبة، تعمل طبيبة وتقيم في كمبالا، كان صوتها يختزن غبائن لا يمحوها إلا القبر، ترسل عبارات من لهب بتراص لا تفيء بينهما فاصلة، محروقة ومحترقة، ملهوبة ولاهبة، كان حديثها يتوجه نحو ياسر عرمان بتوعد صريح ونية مسبقة وإصرار وترصد: (كان لقيت ياسر ده بكتلو)، قالتها بالدارجة وباللغة الإنجليزية، حاولت أن أبحث عن سبب هذا البركان من خلال التسجيل الذي إمتد لخمس دقائق؛ فلم أجد خلافاً فكرياً، ولا تباعدات في الفكرة المركزية. كان السبب كما عبرت عنه بوضوح: (ياسر جلابي ونحن أعداؤنا الجلابة).
حسدتُ تلك الطبيبة المقيمة بكمبالا على نعمة الوضوح، وإختصار الطريق بالتفسير المباشر، وثمنت فيها (الجية من الآخر)، نعم كل تلك الجيوش التي تحارب الآن، تم تجييشها وشحنها وتعبئتها ضد (الجلابة)، ولم يكن ياسر طرفاً في ذلك الشحن لكنه إلتحق بهم ليوجههم نحو هوية أخرى، غير أنها الآن تطاله، لأن تعريف (الجلابي)، في تفسير الدكتورة ينحصر فقط في الهوية العرقية، ولا يمر بالطريق الفكري.
يذكرني هذا المشهد بالموسيقار الحالم الذي كان يعتقد أن الموسيقى يمكن أن تلجم العنف، وتغير المفاهيم، فصار يعزف للأسود، فتتمايل طرباً مع أنغامه، لكن أسداً منها لطم الموسيقار بقدمه اليسرى الشديدة البأس فأرداه قتيلاً، حتى تبعثرت أنغامه، وإتضح لاحقاً بأنه أسد (أطرش).
هذا ما ينطبق تماماً على هذه الطبيبة، التي تمثل صفاً من (الطرش)، لأن قوة الشحن ضد الجلابة أفقدتهم نجاعة السمع، وإني لا أخشى على ياسر من الصم والبكم أكثر ما أخشى عليه من حلمه الذي قاده إلى هذا الوضع البالغ الحرج.
بدأت نبرة أبناء جبال النوبة تصعد ضد ياسر، لأسباب لا أعرفها بالطبع وإقترنت ذات النغمة بالتشكيك في عبد العزيز الحلو، ليس في هويته الفكرية، بل لصلته بالمساليت. والفرق بين الحلو وياسر أن الأول في الميدان، وله بأس وجيش وتذكارات، فإذا كان هو بهذه الجذرية يتعرض لإنتقادات النوبة، فماذا سيكون نصيب ياسر من تلك التباريح؟
في تسجيل آخر إستمعت إليه من نجمة الموسم تراجي مصطفى، وجدتها تتهم ياسر بأنه إستولى على ستة ملايين دولار من كندا، وحولها لطاعة إبنته، وجعلها (متاعاً له ولأنعامه)، ولم يكن صوت تراجي بأقل حُرقة من صوت تلك الطبيبة.
أُشهد الله أنني أعرف أن ياسر من أكثر خلق الله زهداً وصفاءً، ومن أقلهم شهوة للبطن، وأقسم أنه لا يعرف عد النقود، ولا يجالس أهل المال، ولا يفرق في مسكنه بين القصر والكوخ، وتلك شهادة تقتضيها الامانة، فأنا أعرفه منذ عام 1983م، وساكنته وجالسته، وتحولت علاقتنا لصلة أسرية رغم خلاف توجهاتنا.
هو مفتون السلطة وعاشقها، وأنا ضد معتقدها في الأصل، ومروءة الكتابة تفرض على الكاتب عقيدتها، وتبسط عليه شهامتها ولا بد أن يمتثل.
نشرت هذه المادة التي أتت كأبرز ما أثاره الرفض الواسع لأبناء جبال النوبة لياسر عرمان، في صفوف حركة تجمعهم معاً، قبل عامين من هذا التاريخ الذي أصبح فيه ياسر ممنوعاً من دخول الأراضي التي تستولي عليها الحركة، وفي نفس الوقت، لم أكن حفياً بتلك العروض التي كانت تقدمها تراجي تلك الأيام.
عمود (أقاصي الدنيا) للكاتب الصحفي محمد محمد خير _ صحيفة السوداني