روايات خاصة : محنة «شيوعي» في بادية

«1»
يتعمد الحاج يوسف أن يرخي ثوبه حتى يكاد يلامس الأرض ، ويفاسح بين يديه ويباعدهما وهو يخطو بثبات وثقة يحاكي النسر حين يحوم حول صيده ، في يده – دائما – «مطرق » ، لا تفارقه ابدا ولا يزيد عليها ، لم أره يحمل سوطاً أو سيفاً ، لم يكن بحاجة له ، يكفي ان يشير أو ينهي بصرامة صوته ، ويتوقف كل شيء ، كان عنواناً للهيبة ومثالاً للاحترام ، يتعمد ألا يعيد كلامه ، ولا يتكلم حتى يسكت الجميع ولا يطرق أبداً للارض حين يتحدث ويتمهل بين عباراته وكأنه يصك المفردات ، نظره في عيون مستمعيه لا يتجاوزهم ..
ألقاه كل يوم في الاصيل ، تبدأ جلسته مع صلاة الظهر وتنتهي قبل المغيب بقليل ، تصله قداح القهوة و«غباشة» ما بعد العصر ، أمامه صحن عجوة وبعض سمن ، يتوسط سريره «الهبابي» ويتحكر ، حتى لا يشاركه أحد في مساحاته تلك ، ولكنني أفعل ، كانت تلك فاتحة صداقتنا ، حدثني عن جيفارا وعن بوخارين وماو وتشو إن لاي وعن الاحتكارات الرأسمالية والعالم الحر وتحليلات هوبسون وعن السلطة الغاشمة ، ولم يكن في خزانتي سوى الإماءات والانصات وتقطيب الجبين ، فتلك افكارا لا أجدها في خلوة الشيخ بسوطه الغليظ أو «مراح» الابقار أو داخل سور المدرسة بضجيجها المتسارع ، واحيانا – يتصاعد حديثه حتى أظنه يهتف ، ويثور ويتطاير الشرر من عينيه ، ثم ينكفيء في حالة عجز ويردد شعر الحردلو :
كم شُويَـم لَهُن وكتاً كتير فـوق ناقَــهْ
زمناً في طَـرفْ رِيسَه وشِويَّةْ فَـاقــهْ
عاكسنا الدَّهــر كِـتْرَتْ علينا العَاقـَهْ
نِحنا بـرانا يا عبد الله كـيف نتلاقـى
انها محنة «شيوعي » في أرض خصبة الطبيعة وبكر في الفكرة .. يسابق الجميع لصلاة الفجر ويتقدم الصفوف في حلحلة المشاكل ، ويبادر في الملمات ، قليل الحديث ومحدود الصحبة ، وتجده – دائما- في ركن قصي ، يحمل كتاباً أو يوسوس مع صديق..

«2»
حالة نادرة والحاج «يوسف» يستغرق بكلياته مع أغنية طروبة ، كانت من اللحظات القليلة التي يتابع بلهفة شيئاً اخر غير أخبار «هنا لندن» ، والشدو يتدفق في لحن يأخذ الألباب ، ويجلس حين تتداعى كلمات خليل فرح :
ياالطبيعة ، الواديك ساكن
ما في مثلك في كل الاماكن
يا جمال ، النال في ثراكن
يا حلاة ، اللي بيرعن أراكن
في قفاهن تور قرنه ماكن
لا غشى لا شاف لي مساكن
في الخزام والشيح والبراح
وازداد طربه حتى ظننت انه يحلق حتى بلغ درجة أقرب لتوهان العشاق حين ترنم الفنان:
يا أم لساناً لسا معجن
كلمة كلمة ، وحروفا ضجن
ديل خدودك ، غير داعي وجّن
ديل عيونك غير سبة لجن
ديل دموعك من نظرة سجّن
دا دلال إيه دا دلال معجن
محّن الأمات يا رداح..
كان يتلفت ويمد بصره في الفضاء الواسع ويقارن بين المشاهد والكلمات ، وتحول الثائر الى وداعة الدراويش ، ولطفهم ، ورقة إحساسهم ، وربما لذلك السبب يميل الى مداعبة «ود بابكر» ، حين يلاقيه ينسل من طرف الجبل ، وقد علاه التراب وتشققت شفاهه من العطش ، ويناديه ، والمرة الوحيدة يغادر سريره ، وود بابكر في نوم عميق و«سبحته» تتدلى ، ويجلس الحاج يوسف جواره على «تبروقته» في احترام بديع ، ويتهاديان الدعوات بعد كل صلاة ، وهنا في هذه الحضرة يتوقف ود بابكر عن تكرار جملته التي يلقيها في وجه الجميع «المماسيخ » وينتقي مفردة أكثر لطافة «المبروك» وربما يستكثر عليه لقب «الشيخ» ، تلك محبة مجهولة الاسباب ، سوى أن النفوس هنا نقية.
«3»
ذات أصيل ناداني «الشيخ» وقفت أمامه بهدوء ، لم انحن ، او اتزعزع ، تلك كانت صورتي في ذهن «الحاج يوسف» وهو يرقب المشهد ويحدثني ، هذا صبي متمرد ، وكان على رأسي صلعة صافية أو «تفة» تتهدل ، دون أقراني الذين يغطي روؤسهم «قنبور»… وبدأ مشواره في بناء مشروع «كادر» جديد ..
هجيتني الذكرى ، وتداعي الصور أمامي لتلك اللحظات ، مثلما أثار قريحة الصادق ود الحلال يوما طفل يحمل «زمبارة» وصور ذلك ببراعة ومن بين ناظريه تعود لحظات الطفولة وبراءتها وعلى رأسه «قرين» أو «قنبور» وذاك حنين غمر الوجدان ، وقال:
زمبارة الوليد زادتني في الغضبين
طريت جهلي وزمان أهلي مسوين لي قرين
طريت مهلي وطريت أيضا شيوم أم زين
هبش رأسي ولقيت عامتني شيبًاً شين
بذات الهيبة كان هناك ، في سعة الحال وضيق المدن و جدران الأسمنت ، بذات العزيمة نهض يغالب الثمانين ، ويتبسم «دردنا الزمان يا ابني »..

د. ابراهيم الصاددق علي

Exit mobile version