قرأت في الأسبوع الماضي مقالاً ماتعاً للزميل محفوظ بشرى عنونه ب ( عن إفريقيا وابنها العاق ) ، فوجدتني أعود لأوائل أيامي بالكلية بإحدى مدن بريطانيا ، كانت معي سيدة سودانية قبطية ، نتجاور في الفصل ونتحادث في انتظار وصول الأستاذة ، دخلت كيت ولم ننتبه لحضورها فقد كنّا في منتصف ونسة سودانية خالصة ، وقفت أمامنا وهي تسأل باستغراب : هل تتحدثان نفس اللغة ، اجبناها نعم ، ثم أردفت مريم القبطية : نحن من السودان .
لازمتني حالة الإستغراب من هويتي في عدة مواقف ، الحي الذي كنّا قد انتقلنا إليه حديثاًً بلندن ، تقطنه جنسياتٍ من اصولٍ تركية ، إيرلندية ، نايجيرية ، صومالية ومن عددٍ من دول الكاريبي . تخيرنا قهوةً تركيةً في منتصف الحي نقضي فيها بعض الأوقات . في يوم سألتني النادلة ذات الأصول التركية وقد علت وجهها علامات الإستفهام : أنتِ لست صومالية ولا نايجيرية ولا كاريبية ، وبالطبع ليست تركية ، من اي البلاد إذن ؟ .
في اي معاملة بهذه البلاد ، بريطانيا ، من التسجيل في عيادة طبيبك الخاص وحتى التقديم لنيل جنسية البلاد ، تجد أمامك مربعات تتطلب ان تكون واعياً بهويتك ، مكتوب فيها كل إثنيات الدنيا ، لكن هناك صندوقٌ مكتوبٌ عليه ( أخرى ) وهو خيار المتنكرين وفِي افضل الاحوال المترددين في هوياتهم ، برغم وجود خيار . وهنا اذكر شابةً سودانية جمعنا كورس ، بحثت عن خانة ( عرب ) في الفورم ولم تجدها ، وعندما اعترضت أشارت لها الاستاذة البيضاء لمربع ( افارقة سود ) قائلة : اظنك هنا ، ولكن الخيار لك ، يمكنك ان تضعي علامة صاح أمام ( أخرى ) إن أردتي .
أختار ( أفريقية سوداء ) برغم ما تختزنه ذاكرتي من المرويات الشعبية التي يتربى عليها الأطفال منذ نعومة أظافرهم ، ففي وسط السودان كانت حكاوي الحبوبات ذاخرة بقصص الملكة نصرة بت عدلان حفيدة الشيخ محمد ابولكيلك ، الشهيرة بأميرة السوريبة ، والتي كانت ، وفقاً لبعض الروايات الشفاهية ، اميرةً على منطقة تتسع فتشمل مارنجان وبركات وعووضة وبعض احياء مدني الواقعة على ذلك الشريط ، في أواخر عهد مملكة سنار . تقول الحكاوي ان نصرة كانت سوداء وظالمة ومتجبرة ، سامت اهل المنطقة أنواعاً من التنكيل . تروي الحكاية الأولى ان نصرة اعتادت أن تأتي للترويح عن نفسها على ضفة النيل الأزرق ، وسط خدمها وحشمها وحراسها ، وبعد ان ملَّت يوماً من منظر النيل ، ابصرت تمساحاً ، فأخبرت حراسها انها تريد ان ( تشوف شيل التمساح في أولاد العرب ) فأصبح ( أولاد العرب ) من وقتها وجبةً لتماسيح النيل كلما إرادت نصرة الترويح عن نفسها .
أما المروية الثانية فتتحدث عن يوم ( مشاط الملكة نصرة بت عدلان ) ففي يومٍ بعد أخطر حراس الملكة احدى ماشطات المنطقة بأنها مطلوبة لتمشيط شعر نصرة ، وبعد الوليمة العامرة في القصر تفاجأت الماشطة بأن شعر نصرة لا يمكن تمشيطه لأنه قصير جداً وقرقدي ، وجدت نفسها في مأزقٍ فأصدرت همهمة لم تعجب نصرة والتي ردت بدورها ( الليلة كان تأرفي تأرفي وكان ما تأرفي تأرفي ) ، أي ( كان تعرفي تعرفي وكان ما تعرفي تعرفي ) مع بعض المفردات التي لا تصلح كتابتها هنا في اساءةٍ لأهل الماشطة .
ظلت نصرة السوداء المتجبرة نموذجاً في مخيلتنا الشعبية تتناقله الأجيال كرمزٍ للأسود عندما يتحكم في رقاب ( خاتفي اللونين ) أو العرب . يرافقه نوذجاً آخر في عهد المهدية ، تقول الحبوبات في مروياتهن المعنعنة عن جداتهن أن الجهدية في طريقهم لمنطقة الشكابة كانوا يستبيحون المنازل فيضطر اَهلها لإخلائها حتى يتزود جهدية المهدي ( السود ) ويواصلون مسيرتهم .
لم يختف اسم نصرة بت عدلان من حياتنا ، فكلما ارتكبت امرأةً خطأً شنيعاً ، مهما كان نوعه ، يكون التعليق بهمهمة تلك الماشطة ترافقه عبارة ( نصرة بت عدلان ) وهذا اقسى وأوقع تقريعٍ يمكن ان يواجه إمرأة ، يقابله وصف ( جهدية ) للرجال . ولدهشتي ، فقد قرأت وصفاً اورده ريتشارد هيل في كتابه ( على تخوم الاسلام ) للملكة نصرة بأنها ( Her features tell you that she must have been a rare beauty in her youth , her Colour is golden – yellow ) ، فقد كانت نصرة وفقاً ل ريتشارد هيل جميلة بشكلٍ استثنائي في شبابها وكان لونها فاتح ، ذهبي على اصفر ، ، فبمقاييسنا للألوان كانت صفراء كما اعتدنا أن نصف ذوي اللون الأبيض .
نشأنا وفِي وعينا ان السود كلهم شر وأننا لسنا بسود ، ولا نصبح مثلهم الا عندما نرتكب اخطاءً ترفضها قيم وأعراف مجتمعنا فنصبح نصرة و جهدية .
الظلال التاريخية الكثيفة لممارسات قد تكون معزولة ، أو ربما غير ذلك ، يرضعها الأطفال من امهاتهم ، فينشأون وهم في برزخ الهوية ، يكرهون سواد لونهم ، وقد زاد الطين بلةً عدم قدرة النخب السودانية منذ ان اصبح السودان دولة على ترسيخ وعينا بهويتنا ومناقشة التاريخ بتجردٍ يزيل المرارات ويسهم في نثر إضاءات توطئة للتصالح معه ومع هويتنا .
هل الصورة وردية على الجانب الآخر ؟ في غرب السودان فإن الأفتح لوناً من أبناء شمال ووسط السودان هم دائماً ما يوصفون بالجبن والانتهازية والقدرة على التجبر ان وجدوا الفرصة المؤاتية ، لذلك تأتي المرويات الشعبية هناك ترسخ لهذه المفاهيم التي تحط من قدر اهل الوسط والشمال . ف ( ام جلبة حبل قيطان امك شيتة وأبوك طرزان ) والجلابي ، ذي اللون الفاتح : كان لقيتو في الغابة يقولك يا يابا ( كناية عن الخوف ) ، وهو ام بربت سكين الاباط ( اي يسهل إخضاعه واستغلاله كسكين الضراع ) وهم يوصفون تحقيراً بام شليخاي ( الشلوخ ) وام توباي ( التوب الذي يرتديه الرجال مع الجلابية والعمامة ) ، وهم ام جلخساي ( تقليلا من شأن ذوي اللون الأصفر او الأبيض ) .
وهنا أيضاً الكثير من ظلال التأريخ ومظلمات الحاضر التي ترسخ لسوء أصحاب اللون الأفتح من اهل الوسط والشمال ، وللحقيقة لكل منطقةٍ من مناطق السودان تأريخها غير المدون الذي تستدعيه للتظلم من الآخر صاحب اللون المختلف .
نحتاج أولاً كسودانيين ان نكتب عن كل ذلك ، نناقشه ثم نستفيد من اشراقته ، ان وُجدت ، حتى نخطو بثقة نحو هويتنا كأفارقة ، بعضنا اسود وبعضنا الآخر أقل سواداً ، لكننا جميعاً (black African ) . لسنا نصرة ولا جهدية ( بالمعني الذي تعارف عليه اهل الوسط ) ، ولسنا أم جلخاسي ( عند أهل الغرب ) ، نحن سودانيون . كذلك نحن بحاجةٍ للتعرف أكثر على إفريقيا ، فهناك من هم اكثر بياضاً من بعضنا ، ومن هم اكثر سواداً من بعضنا الآخر ، يتحدثون بلغاتهم المحلية او الانجليزية ، الفرنسية وغيرها لكنهم يوقنون انهم افارقة
سلمى التجاني
خرطوم بوست