لا أدعي أنني التقيته كثيراً، بل كانت مرات معدودة أقل من أصابع اليد الواحدة، بهرني ورفع حاجب الدهشة لديَّ، حينما طالعت كتابه النقدي الأول (مقالات نقدية)، الذي أصدرته إدارة النشر الثقافي في العام 1977 وكان الكاتب في مقتبل العمر، كما كنا مثله إلا قليلاً، وقد اقتفى في الكتاب أثر مقولة (ه. ل. منكن) في تنظيف غابة الإبداع من كل ما هو متهافت ورديء ويفتقد حرارة الفن، في وقت كانت حركتنا النقدية مصابة بهشاشة عظام لأنها كانت تتغذى من الادعاء والشللية. ذاك الكتاب تجد فيه حماسة مثقف يحمل (مشرطاً) يجريه على جسد عدد من الرموز الذين اتخذ بعض جمهور الكتاب والقراء منها – من الرموز- أبقاراً مقدسة. ذاك كتاب طرح فيه كاتبه أسئلة كبيرة ومهمة مازالت تنتظر من يستخرج عروق الذهب من صخورها، بعيداً.. بعيداً عن الاجترار؟!
أتحدث هنا عن الناقد عبد القدوس الخاتم الذي كان ضمير حركتنا الثقافية في السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وكان رحيله قبل أيام فاجعة لمن عاصروه ومن اطلعوا على كتاباته. عبد القدوس ناقد أصيل والنُّقاد قليل في بلدي، كانت ثلة ترى في نقده غلظة وحدة، ليس من باب التشفي إنما بحثاً عن المثال الأفضل في الأدب والنقد، هذا النسر النقدي كان في غربة امتدت لعقدين من الزمان، حيث آب إلى الوطن في العام 2006م، بيد أنه عاد مكسور جناح أو مهيضه، إذ أنهك جسده داء لعين ولم يستطع أن يحلق عالياً، كما فعلها من قبل في فضاء النقد الأدبي السوداني. عاد عبد القدوس وجيل مطلع الألفية الثالثة جاهل بتوهج موقده النقدي وربما وصلته نتف مما سارت به رُكبان مبدعي ونقاد السبعينيات من القرن العشرين من السودانيين. عبد القدوس حط رحله في أم درمان وهو الذي خرج يطلب كسب العيش بعد أن ضاق به وطنه ولفترة (20) عاماً، ووجد الناس مازالوا يرددون (يانا نحنا) على الرغم من أن (المحن) قد فرقتهم.
عاد إلى الوطن ليجد الناس يعزي بعضهم بعضاً، عاد الرجل وهو في أشد المعاناة متلفعاً بالصبر وقد تفرق الأصدقاء والأوفياء.. فلا اتحاد كتاب ولا اتحاد أدباء ولا رابطة أدبية ولا جماعات وجمعيات ثقافية وقفت معه في محنته، وثالثة الأثافي، ويا لها من أثافٍ وأسى وأسف، أن مؤسسات الدولة الثقافية الرسمية تقاصرت عن الوقوف معه، وكان مثله وبقامته النقدية الفارعة يُحتفى بعودته، بل يُمنح (منحة تفرغ) ليخرج ما هو كامن فيه من درر الكتابة ولكن.. على عتبة باب الرحيل ليس لنا إلا أن نردد ما قاله أبو حنيفة عن أبي يوسف القاضي: “لئن أُصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير”.
رحل عبد القدوس الخاتم القامة والقيمة النقدية والثقافية ولم يترك وراءه سوى كتابين يتيمين، أحدهما سبق الإشارة إليه والآخر (مراجعات في الثقافة السودانية) الذي صدر في العام 2012 بمؤازرة من مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، والشاعر الصحافي محمد نجيب محمد علي، وفي مقدمته رثا عبد القدوس مقالات له ضاعت وأخرى ضاع نصفها.
الخاتم ناقد (جواهرجي) كشف من خلال بصر وبصيرة نقدية ما هو حقيقي وما هو مزيف في الإبداع.. ما هو عيار (21) والذي ليس له (عيار). هذا الناقد كان حظه فقط من التأليف لا يتناسب مع حضوره النقدي طوال نصف قرن من الزمان تقريباً، ولعله شبيه في ذلك بالدكتور عبد المنعم تليمة وأمين الخولي. هذا الإقلال أضر بصاحبه نقدياً، كما أضر بالمشهد الثقافي مؤخراً، وكان في أشد الحاجة إليه، ونتساءل: أين ما أنجزه عبد القدوس الخاتم في الغربة أم كانت الغربة كـ(الهدام) الذي التهم من ضفاف سنوات عمره بما فيها من عنفوان ونضوج فكري؟! لا بد أن يكون قد كتب في تلك الأعوام العشرين كتابات نشر بعضها هناك وبعضها مازال (مخطوطات)، وخاصة أنه عمل في غربته بمؤسسة كبرى تُعنى بالنشر. كيف نستعيد هذا الإرث الكتابي؟ أما مقالاته التي نُشرت ولم يعثر عليها صاحبها، فيمكن اقتفاء آثارها بدار الوثائق القومية، ونحن إذ نكتب عنه هذه الكلمة المقتضبة، إنما نكتب عن نبل وأصالة فارس في ثقافتنا السودانية، ويا للأسى.. لو سألت العم (غوغل) عن صور مغنين ومغنيات شباب من ذوي (العاهات الغنائية)، لظهرت لك العديد من صورهم، ولكنه (نعني غوغل) ضنّ علينا بصورة واحدة مكتملة الملامح لناقدنا الفذ عبد القدوس الخاتم.
وهذا زمان مهازل غوغل.. فتأملوا. ألا رحم الله عبد القدوس الخاتم بقدر ما له من بالغ أثر في خارطة النقد في الوطن، وبقدر ما أضاء في مسيرته بلا تحيز شللي أو حزبي أو جهوي أو عقائدي.
نبيل غالي-اليوم التالي