قبل سنوات قليلة استدعت السلطات السودانية المختصة مدير مكتب الجزيرة صديقنا العزيز المسلمي الكباشي ..بعد انتهاء الاستدعاء كان الشريط الأحمر بقناة الجزيرة وتحت بند عاجل يحمل خبر الاحتجاز ..اعتبرت الحكومة السودانية التصعيد إهانة شخصية وتكررت الاستدعاءات بشكل راتب وتم تطويل فترة الانتظار اليومي..مع نهاية كل يوم كان المسلمي يتوقف في مكتبه ويقوم بتوثيق الحادثة..في نهاية الأمر تم إغلاق الملف بهدوء حينما أدركت الحكومة أن ممثل قناة الجزيرة من الصنف العنيد.
اشتعلت ماكينات صنع الأخبار بعد تصريحات الدكتور أحمد بلال عثمان، الأمين العام للحزب الاتحادي ووزير الإعلام بالحكومة السودانية.. دكتور بلال انتقد من القاهرة قناة الجزيرة واتهمها بالسعي لتغيير نظام الحكم في مصر.. لكنه بدهاء استخدم تعبير (في تقديري شخصي) قبل أن يرمي بقنبلته العابرة للحدود ..إعلام محور القاهرة وأصدقائها في الرياض وأبوظبي اعتبر الأمر تحولاً في موقف الحكومة السودانية..فيما تحسست قناة الجزيرة من الانتقاد واعتبرته موجها ضد دولة قطر فقامت عبر مدير مكتبها بالخرطوم باستيضاح السيد رئيس الوزراء بشكل يفتقر للدبلوماسية ولا يراعي الأعراف السياسية.
لكن مدارسة الأمر ربما تعطي صورة أخرى لمعركة بلال والجزيرة.. لن تستطيع الجزيرة أو أي مراقب محايد أن ينكر الدور الكبير الذي لعبته قناة الجزيرة في صناعة الربيع العربي..دور الجزيرة في إحداث التغيير بات واحداً من النظريات المتجددة في مجال الإعلام ..بل هنالك أطروحات دكتوراة ناقشت هذه الظاهرة ..لهذا شكلت الجزيرة بعبعاً لأنظمة الحكم التقليدية في كامل المنطقة ..الأزمة الآن بين قطر وأخواتها تشكل قناة الجزيرة القاسم المشترك الأعظم فيها.. تحسس نظام السيسي من قناة الجزيرة جعله يزج بصحفييها وراء القطبان منذ الأيام الأولى للانقلاب على الحكم المدني..من هنا اتهام الوزير أحمد بلال يستند على قاعدة من الشك الكافي لبناء لائحة اتهام عنوانها اجتهاد شخصي .
لا أدري لماذا وجهت سهام نقد عنيفة للدكتور أحمد بلال واعتبر تعليقه الشخصي عبارة عن توجه جديد للحكومة.. في شهر رمضان المعظم عبر المهندس الطيب مصطفى، عضو البرلمان ورئيس لجنة الإعلام، عن موقف مساند لدولة قطر في الأزمة الناشبة..ومن قبله أعلن مولانا الميرغني من مقر إقامته بالقاهرة عن تأييده وحزبه لمحور السعودية والإمارات في ذات الأزمة..حزب المؤتمر الشعبي التقى سفير قطر بالخرطوم في تلميح صريح عن المؤازرة ..في كل هذه الاجتهادات والخروج على يوميات الحكومة لم يحتج أحد..ولم يصدر اتحاد الصحافيين بياناً يجرم الميرغني أو يدين رأي الأستاذ الطيب مصطفى والذي يعتبر أحد أعضاء الاتحاد ورقماً كبيراً في الساحة الصحفية.
في تقديري من المهم أن نطرح سؤال هل السودان في الحياد تماماً من هذه الأزمة..قبل الإجابة على هذا السؤال علينا أن نتوقف في رحلة الرئيس البشير التي جاءت مؤيدة للوساطة الكويتية..البشير زار المملكة العربية من قبل وسيزور الكويت وأبوظبي..لن تكتمل هذه الوساطة إلا بالتوقف في محطة الدوحة ..لكن هذا لن يحدث ولا ينبغي له أن يحدث ..من مصلحة السودان أن يشغل نفسه بقضاياه وينصرف بعيداً عن هذه القضية التي تشبه حال من يدخل يده في جوال دقيق وينتظرها تخرج نظيفة تماماً.
بصراحة ..من حق أحمد بلال أن يعبر عن رأيه الشخصي والمؤسسي في أي قضية..بل من حق أي مواطن سوداني أن يسدد سهام النقد لقناة الجزيرة المؤسسة على قاعدة احترام الرأي والرأي الآخر..لكن ليس من حق الجزيرة ولا حتى وزارة الخارجية القطرية أن تخاطب مسؤولاً سودانياً لتطلب منه توضيح موقف سياسي..من المسيء جداً لقناة الجزيرة أن تعتبر نفسها مجرد (درقة) لدولة قطر.
عبد الباقي الظافر-الصيحة