ربما تنفذ العملية بعد شهر.. كسا قلوب أهالي منطقة (الصفر) الريف الغربي محلية الأمير اليأس، بعد إحساس الفرح الذي تملكهم عندما وعد أحد المسؤولين بتوفير الخدمات، غير أن طارئاً حوّل مجرى الحياة إلى اتجاه آخر، وتطلب الأمر التخطيط كشرط أساسي حتى تنعم بالضروريات، هذه العملية تحديداً زادت المعاناة داخل بيوت الطين التي يئن سكانها من شدة قسوة ظروف الحياة، فهناك من حصل على مسكن ويحسب الأيام لترقية المنطقة، وهناك من سقط اسمه واعتباره غير مستحق، عموماً المستفيدون وغيرهم يلتقون هذه الأيام في نقطة واحدة وهي الخروج من العشوائيات، والبحث عن سكن آخر يؤويهم لتنفيذ قرار أصدرته وزارة التخطيط العمراني بإزالة المنازل بأكملها في إطار الترقية والتخطيط .. الأمر يزداد صعوبة يوماَ بعد يوم نظرًا لأنهم أسر فقيرة ولا طاقة لهم لاستئجار منازل، كما تصعب عليهم الإقامة مع الأهل أو الأصدقاء في ظل أن تاريخ الهدم بات قاب قوسين.
مشاهد متعددة
تعتبر المنطقة المكونة من (983) منزلاً الرقم (صفر) في المحلية، وسميت بهذا الاسم لعدم وجود منطقة سكنية بعدها، وهي تبعد بمسافة كيلو ونصف من سوق ليبيا، تتوسط مربع (2) المرخيات وجبل المرخيات نفسه، تسكنها حوالي (1449) أسرة يعيشون تحت وطأة الفقر.
على إثر اتصال هاتفي من بعض الطالبات بجامعة النيلين عن الوضع هناك، تحركت (الصيحة) ووقفت خلال جولتها على بعض المشاهد، فهناك بيوت جثمت على الأرض نتيجة الإهمال، وأخرى مهجورة سكنتها القطط السوداء، وتعرضت جدران البعض منها لتصدعات سمحت بتسرب كميات معتبرة من مياه الأمطار الأخيرة، وبين كل ركن وآخر توجد جبال النفايات التي شوهت الشوارع المتعرجة وزادت من صعوبة المرور بها، وهناك وجوه عابسة أضناها الفقر، لكنها ملتزمة الصبر .. و(عايشة) أيامها بقدرة الله، عطالة طاغية على الطقس .. وأجواء مرتفعة درجة حرارتها حد الغليان، فالزائر للمنطقة لأول مرة يشعر وكأن هناك طاقة حرارية جوفية حارقة تخرج من تحت الأرض، وهي بمثابة بركان يختلط مع طبيعة المكان الجبلية، فيحدث انصهاراً يرفع وتيرة (الحر) ويحرق الأجساد، الغريب في الأمر لم أشاهد خلال جولتي أي وجود للكلاب الضالة، بخلاف القرى من حولها، مما جعلني أسير باطمئنان بين الأزقة والشوارع الحارقة.
تغول على الأراضي
صرخات مكتومة يطلقها السكان، من داخل بيوت الطين تزداد معها المعاناة بشكل مستمر، كل يشكو حاله في صمت ـ فبعد أن ذهبت وعود المسؤولين أدراج الرياح، لم يبق لهم سوى رفع أكفهم، والدعاء بأن تزول العقبات التي تعرقل اكتمال عملية التخطيط، حتى تصلهم الخدمات الضرورية من (ماء وكهرباء وصحة وتعليم)، تلك الاحتياجات التي يحلمون بها منذ مئات السنين، قبل أربع سنوات حضر وفد من مكتب الأراضي وعمل على ترقيم المنطقة، أي وضع رقم محدد على أبواب المنازل استعداداً للتخطيط الذي لم يحدث حتى الآن، وعدد من الأسر سكنت البيوت المتهالكة للحفاظ على نصيبها وكان لها حق الملكية، وتحولت فرحة آخرين إلى كابوس لاستبعادهم عن قصد رغم مكوثهم في المنازل قرابة العشرين عاماً على حد قولهم.. الصدمة الكبرى التي يعاني منها السكان أطلت على السطح بعد ترقيم المنازل بسويعات، حيث ظهر أفراد من مناطق أخرى، وقاموا بوضع أرجلهم داخل مباني هجرها أصحابها الأصليون بحثاً عن حياة أفضل، وادعوا أنهم ملاكها، وقدموا مستندات حيازة مزورة لمناديب مكتب الأراضي، وما زالوا يسعون لامتلاك أكبر عدد من البيوت، الأمر الذي أحدث إشكاليات وخلافات واسعة بينهم واللجان الشعبية، المجموعة الدخيلة هدفت لتعطيل المشاريع التي من شأنها أن تقام بالمنطقة كنوع من المكايدة، وتسعى لبيع الأراضي التي تحصلوا عليها بأسعار زهيدة تبلغ (5) آلاف جنيه للقطعة الواحدة، وتم منحهم المنازل رغم أنهم غير مستحقين لها كما يقول المواطنون، واشتكى آخرون من افتقار المنطقة للأسواق والمحلات التجارية بالكامل، وأنهم يحصلون على احتياجاتهم اليومية من الأسواق التي تبعد عنهم مسافة كيلو على الأقل، وهذا الأمر أرهقهم مما يتطلب عمل محلات صغيرة لبيع الخضار مع إنشاء جزارة ولو واحدة لتكفيهم عناء الطريق والمسافات التي يقطعونها .
انعدام وفقر
مؤخرًا سميت المنطقة بالمعمورة مربع (59) لتتناسب مع التغيير القادم، من داخلها التقيت المواطنة (هويدا خليفة إدريس ) ربة منزل، كانت تجلس على ركام مبنى أسقطته العواصف، وهي واحدة من الأسر التي تعداها الترقيم رغم أنها تقيم في منزل تملكه بالحيازة منذ عشرة أعوام، قالت (للصيحة): صاحبت عملية (الترقيم) تجاوزات لعدد كبير من الأسر الذين وجدوا أنفسهم خارج الخارطة السكانية، رغم أنهم يمتلكون المنازل التي يقطنون فيها منذ عشرات السنين، وعندما لجأو إلى الجهة المختصة (مكتب الأراضي) بالمحلية لمعرفة أسباب تجاهلهم، علموا بأن إجراءات ترقيم المنازل التي تمت في يوم واحد لم تنته بعد، وسوف يعملون على مراجعة الأمر.. والآن تنتظر هويدا الإجراء لتضمن حقها في السكن والتمتع بالخدمات التي قد تطول إجراءاتها أيضاً.
وحول الأوضاع بالمنطقة، أفادت أنها تفتقر لأبسط الضروريات، وترتفع فيها أسعار الكهرباء الموصلة بواسطة “البوابير” والتي تصل إلى (50) جنيهاً في الأسبوع، وأردفت قائلة: (المستطيع بيقوم بتوصيلها وغير المستطيع (بعاين بعينوا ساي)، وأشارت إلى أن الأغلبية العظمى من الأسر أوضاعها متدنية وعايشين (على الله)، ووفقاً لمحدثتي هناك انتشار للاسهالات والتهابات في الدم بسبب ارتفاع درجة حرارة المنطقة، ولا تتوفر مياه لترطيب أرضها عبر (الرش)، فيما اشتكت (حليمة) ربة منزل من معاناتهم مع الحصول على ماء الشرب النقية، التي يقمن بجلبها بواسطة الدرداقات من أماكن بعيدة جداً، وحسب حديثها أنهم من ناحية المواصلات (مرتاحين) جداً، ولكن المضايقات الأخرى تعوق حياتهم، كما أشارت إلى انتشار السرقات الليلية بالمنطقة، حيث اتخذ اللصوص من البيوت المهجورة أوكارًا لتجمعاتهم وتخزين المسروقات التي تسرق من المنازل بالمناطق والمربعات الأخرى، فالأمر يتطلب إزالة تلك المباني بأسرع وقت.
هجرات داخلية
المعاناة (حاصلة والله غالب).. بهذه العبارات تحدث المواطن أشرف بشير محمد، مؤكداً وجود تلاعب في أراضي الحي، من قبل شخصيات اعتبارية تقطن من حولهم ظهروا مع بداية إجراءات التخطيط ، ويرى ضرورة حسم أمرهم من سلطات المحلية والجهات المعنية الأخرى، وواصل بالقول: وسائل المواصلات الشيء الوحيد الذي تنعم به المنطقة والباقي كله صفر، كما أشار المتحدث إلى دور الظلام الدامس الذي يحيط بالمكان حولها لبؤرة خصبة للمجرمين الوافدين من القرى البعيدة، وهناك مشكلة أخرى تزعج محدثي تتمثل في تكدس المساكن، وهناك الكثير من البيوت القديمة والمهجورة والمنهارة تحولت لساحات تستقبل النفايات، وأن عدداً من السكان يتصف بالفقر والأمية والبطالة، وكلها عوامل تساعد على انحراف الفرد، وليس استقراره ومشاركته في تنمية المجتمع، فالهجرات الداخلية التي تمت مؤخرًا أدت إلى فقر حضري للمنطقة.
توضيح ودفاع
حملت هموم وشكاوى السكان وتوجهت بها نحو (محمد سليمان) رئيس اللجنة الشعبية، والمسؤول عن توفير الخدمات والبحث عن المعالجات التي تخدم منطقته، حيث لخص المشكلة في الفوضى التي أثارها عدد من الدخلاء وأنهم بالتعاون مع المحلية سوف يعملون على معالجتها بأسرع وقت، وفيما يتعلق بتوفير الخدمات قال إن المنطقة ما زالت سكناً عشوائياً يعاني جل سكانها ظروفاً صعبة تضيف عبئاً كبيرًا عليهم، ومعلوم لدى الجميع أن العشوائي من أصعب المراحل، وتوفير الخدمات لا يتم في ظل منطقة متداخلة المنازل والشوارع، ولكن الفترة القادمة سوف تتحسن الأوضاع، وذلك بجهود معتمد المحلية عبد اللطيف فضيلي الذي اهتم بملف العشوائيات، وعمل لوضع الدراسات والخطط لمعالجة المشاكل التي تحيط بها، وأيضاً بمساهمة كبيرة من منسق عام اللجان الشعبية محمد فضل المولى تمساح وغيرهم من الذين كان لهم الدور الكبير في تحديد المنازل بأرقام ومحاربة التعدي على المنازل، فقط تفتقر المنطقة لمدارس حكومية لتضاف إلى المدارس الخاصة الموجودة حالياً، وحول قضية السطو على الأراضي وغيرها من المظاهر سوف تتم معالجتها في القريب العاجل بالتعاون مع الشرطة المجتمعية والمحلية.
بعد العرض
لم تكن الصرخات التي أطلقها السكان إلا بمثابة متنفس لهم، حتى لا يصابون بورم في الحناجر، فالناس يعيشون ظروفاً مأساوية، وما يعانون منهم هناك انعدام تام للخدمات جعل حقوقهم صفراً كبيرًا في منطقة (الصفر)، فقد لاحظت جولة الصحيفة التردي الواضح في صحة البيئة مع انعدام ملحوظ لمياه الشرب، وعدم وجود مراكز صحية ومدارس حكومية، نظرًا لأن ساكني المنطقة من مختلف الولايات والجنسيات، يشكون من نقص صعّب معيشتهم، غادرتهم والبعض منهم يتساءل ما جدوى ترقيم المنازل في ظل السطو الذي تشهده المنطقة؟ والبعض الأخر يذرف الدموع لعدم استحقاقه في السكن ومتى ينعمون بالاستقرار؟ ..
تضم (الصيحة) صوتها إلى أصوات المواطنين وتناشد بضرورة مراجعة ملف أراضي ومنازل (الصفر) حتى لا يُظلم أحد ويجد كل محتاج مأوى.
تحقيق: إنتصار فضل الله
الصيحة