تباهيت مرارا بأنني كنت ضمن أول عشرين شخصًا حملوا واستخدموا الهاتف النقال »الجوال« الموبايل في العالم الثالث بأجمعه، وهذا دليل قاطع على أنني شخص متحضر وشديد الرقي، وتكنولوجي ومن النوع الذي يقال عنه »سابق عصره«، فقد كنت وقتها موظفا في شركة الاتصالات القطرية، وقررت إدارة الشركة منح عشرين من موظفيها هواتف نقالة عندما كانت الخدمة تحت التجريب، وكنت واحدًا من أولئك ولكن كانت معظم المكالمات التي كانت تأتيني تدور حول كفاءة ارسال واستقبال المكالمات: آلو.. كيف الاستقبال عندك؟ سامعني زين؟ وين أنت بالضبط… الصوت مو واضح!! بذمتك مو من علامات الساعة إنك حامل تليفون ما له مثيل في تسعة اعشار بلدان العالم؟ باختصار كنت مجرد »فأر« مختبرات، تُجرى عليه التجارب لتقصي كفاءة تغطية شبكة الجوال، فكنت من ثم اضطر إلى إجراء مكالمات وهمية كي يراني الناس وأنا أحمل ذلك الجهاز العجيب، الذي يجعلك تتكلم وانت تمشي وحتى وأنت تقود سيارتك، وكان عيالي الأكثر فرحًا بامتلاك أبيهم هاتفا جوالا، وسمعت أمي أن جعفر عنده موبايل فانزعجت كثيرًا لأنها حسبته نوعًا من التهابات الكبد.
وانتشر الجوال، وصار ملازمًا للمتبطل ورجل الأعمال، ولسنوات كنت كلما التقيت بشخص وسألني كم رقم جوالك؟ فأقول له بكل فخر: ما عندي جوال وتليفون البيت مقطوع، وبعد مقاطعة دامت قرابة 8 سنوات صار عندي جوال، وكان ذلك بضغوط من العيال الذين كان زملاؤهم في المدارس يعايرونهم لأن أباهم لا يملك جوالاً، وحرصت على إبلاغ عدد محدود جدًا من الناس برقم الجوال، وكنت أقول لكل واحد منهم: ما في غيرك يعرف هذا الرقم، ولكن ما حدث هو أن كل واحد من الذين نالوا شرف معرفة رقم جوالي، قام بتبليغ شخص آخر بالرقم متبوعًا بـ: إذا سألك جعفر من أين أتيت بالرقم، لا تقل له انك حصلت عليه مني، وخلال شهرين صار هناك نحو ألفي شخص في مختلف أنحاء العالم يعرفون رقمي »السري«.
وما عانيت من شيء طوال حياتي مثل معاناتي مع الجوال الذي يجعل الجميع كالموت يدركونك أينما كنت!! ثم جاءت الرسائل القصيرة )المسجات( عبر الجوال: واحد ندل فتح مصنع بيبسي وكتب على كل علبة وزجاجة »رج جيدًا ثم افتح«،… وتكون في اجتماع مهم مع شخصيات مهمة وتأتيك رسالة عائلية« جيب معك خس وكوسة وبندول!!
وقلبي كان حاسس ان الآيفون سيكون كارثة أكبر من الجوال التقليدي الغبي، ولم أكن اعرف أن به خاصية تحديد موقع مستخدمه، وبالتالي كنت ازوغ من العمل ويتصل بي المدير فأقول له إنني في المستشفى، فيرد: بس اللوكيشن بيقول إنك في فندق شيراتون!! يسمع منك ربنا يا السيد المدير. حتى قبل سنة كنت أحسب شيراتون اسم فريق كرة إنجليزي.
بس فرجت وتعلمت تعطيل اللوكيشن )الموقع(، بل تعلمت كيف أمنع الاتصالات من بعض الأطراف، بما يعطي الانطباع بأنني –اسم الله عليّ- أقفل الهاتف لأني غرقان في الشغل، وسأكون أسعد الناس بتطوير جامعة كارنيجي الأمريكية لهاتف جوال حساس وابن ناس، فإذا أحس أنك مشغول في حوار أثناء ورود مكالمة، فإنه يرد عليها بعبارة من قبيل: خلي عندك شوية ذوق واتصل لاحقًا.. ويا ليت لا تتصل إطلاقًا،.. وسأشتري هذا الجهاز الجديد مهما كان سعره، وأحرص على تشغيل محطة إف أم إذاعية على مدار الساعة حتى يحسب الجوال الحساس أنني مشغول في حوار ويقوم بـ»توزيع« كل من تسول له نفسه أن يهاتفني!!
ومن مزاياه أنه يخبئ تطبيقات الثرثرة مثل واتساب وفايبر، فيكف أصحابي عن إبلاغي بأن الآيسكريم فيه دم خنزير، وأنني إذا قمت بنشر نص دعاء معين فستتحقق جميع أمنياتي )سألت أحدهم: جميع الأمنيات؟ حتى لو حرام؟ فتوقف عن قصف هاتفي برسائل »أنشر«(.
زاوية غائمة
جعفر عبـاس