موائد السودانيين مفتوحة لعابري السبيل

لشهر رمضان خصوصية لدى السودانيين، حيث تزداد فيه قيم التعاضد الاجتماعي ويتم إحياء الطقوس والعادات المرتبطة به، ما يجعل منه شهراً مميزاً، يحرص خلاله معظم أبنائه المغتربين على العودة إلى الوطن وقضاء الشهر وسط العائلة.

تتغيّر اليوميات في السودان خلال شهر رمضان، فتهدأ الحياة نهاراً لتنتعش ليلاً. كما تختلف خلاله المائدة السودانية تماماً عن بقية الأشهر. تمثّل وجبة “الويكية” وهي وجبة شعبية عبارة عن بامية مجففة ومطحونة يتم طهيها باللحمة والصلصة، الوجبة الرئيسية في هذا الشهر. وتشترك بتناولها جميع القبائل السودانية بمختلف ثقافاتها الغذائية وإن كانت منتشرة أكثر في الشمال. وتختلف طريقة تناولها بين منطقة وأخرى فأهل غرب السودان ووسطه يفضلونها مع العصيدة (طحين ذرة يطبخ بواسطة الماء ليصبح سميكاً)، أما أهل الشمال فيفضلونها بالقراصة (دقيق قمح مطحون يخبز على صاج بشكل دوائر كبيرة رقيقة أو سميكة) وأحياناً بالكسر (دقيق ذرة يخمّر ويمدد على صاج على شكل رقائق ناعمة).

ويحرص أفراد الأسر السودانية على الإفطار معاً حول مائدة واحدة، من دون أن يتخلّف أحد أسوةً ببقية الأيام. إذ نادراً ما تجتمع الأسر حول المائدة لانشغال أفرادها في العمل، فالظروف الاقتصادية تجبر الكثيرين على العمل بدوامات مختلفة، ولأوقات متأخرة.

استعد السودانيون باكراً لرمضان عبر تجهيز احتياجاته بما فيها العصائر التي يتسيّدها “الحلو مر” الذي يعدّ داخل كل بيت سوداني ويستغرق إعداده ما يزيد عن الأسبوع. وقد بدأ بيعه مؤخراً عبر ربّات المنازل ما خفّف عن كاهل الكثير من الموظفات ممن لا يجدن الوقت الكافي لإعداده، فضلاً عن ظهور شركات تتولّى إنتاجه وتقديمه في عبوات مختلفة.

ويسافر “الحلو مر” و”الويكية ” اللذان يعتبران من أساسيات المائدة الرمضانية السودانية عبر القارات إذ تحرص الأسر السودانية على إرسال كميات منهما لأبنائها في المهجر، قبل فترة من رمضان.

ورغم الضائقة الاقتصادية، لايزال السودانيون حريصين على الإفطار في الطرقات أمام المنازل، إذ يقوم كل منزل في الحي بإخراج صينية الإفطار ليجتمع الجميع حول مائدة واحدة، فيفترشون الأرض وتكون فترة الإفطار بمثابة ملتقى لأهل الحي يتبادلون خلالها همومهم ويقفون على أحوال بعضهم البعض. كما يمثل الإفطار خارج المنزل مظهراً من مظاهر التكافل والتعاضد، فهي موائد مفتوحة لعابري السبيل، ولكل من دهمه الوقت وتخلّف عن الإفطار، فضلاً عن العاملين في المواصلات.

في رمضان تكثر الزيارات الاجتماعية، والإفطارات الجماعية مع الأسر الممتدة، وبين الموظفين في مكان العمل الواحد، وزملاء الدراسة ممن تفرقت بهم السبل. ويميل كثيرون للإفطار في “البيت الكبير”، أي بيت الجدين، لاسيما في أول يوم من رمضان، فضلاً عن الإفطار مع كل من فقد عزيزاً في محاولة لمؤازرته.

وفي الأحياء يتبادل الجيران وجبات الإفطار والحلويات من باب المشاركة، كما يحرصون على جلسات القهوة والسمر بعد الإفطار. وتخرج النساء والرجال والأطفال والشباب في مجموعات لأداء صلاة التراويح. وخلال الليل تغص النوادي التقليدية بالشبان والمسنين الذين يلعبون الضمنة والكوتشينة. أما الأحياء التي تفتقر للنوادي فيخرج ساكنوها إلى الميادين العامة للعب كرة القدم. ويتنزه آخرون ليلاً عند كورنيش النيل.

وتنشط في رمضان المجموعات الشبابية المتطوعة في تقديم وجبات الإفطار للمساكين وعابري السبيل. وتنتشر هذه المجموعات في الطرقات الرئيسية وأمام الكباري وخصوصاً في المناطق التي يعاني سكانها من الفقر.

تقول نسرين (37 عاماً) التي تقيم في السعودية إن “رمضان في السودان له مذاق خاص”. وهي عادة ما تحرص مع زوجها على قضائه في السودان. تقول: “أشتاق دائماً للجلسات الونيسة مع جارتي بعد صلاة التراويح، التي عادة ما تكون كل يوم في منزل مختلف، ففيها شعور لا يمكن أن يوصف”. ويؤكد محمد ( 45 عاماً) المقيم في الولايات المتحدة أنه يحرص دائماً على قضاء شهر رمضان في السودان رغم خسارته لوالديه وتفرّق أخوته بين عدة بلدان. يقول: “إحساس رمضان في منزل عائلتي ووسط جيراني مختلف ويبعث الابتهاج في نفسي رغم غصة الألم على غياب الوالدين”.

من جهتها، تؤكد نور (25 عاماً) حرصها على قضاء شهر رمضان في المنزل ووسط الأسرة، وعادة ما تعتذر عن تلبية دعوات الإفطار خارج المنزل، باعتبار أن رمضان هو الشهر الوحيد الذي تسمح فيه ظروف عملها بالتواجد مع أهلها حول مائدة واحدة. تقول: “لا أريد أن أضيّع هذه الفرصة”.

العربي الجديد

Exit mobile version