في ظل عدم الإستقرار في المنطقة، كيف نبني الدولة؟

إن بناء الدول عملية شاقة ومعقدة تستغرق فترات طويلة تعدّ بعشرات أو مئات السنين وتحتاج إلى وجود مقومات ومصادر وموارد لا تكتمل عملية البناء بدونها، ولنتمكن من فهم آلية البناء هذه أثناء وتحت أوضاع غير مستقرة يجب علينا أولاً تعريف مفهوم الدولة بأبعاده الشاملة، فالدولة تُعرف بأنها “كيان أو تجمع سياسي يمتلك الإختصاص السيادي في نطاق إقليمي ودولي محدد، وتظهر سيادة الدولة من خلال منظومة من المؤسسات السيادية تُمثل الجانب التشريعي والقانوني والجانب التنفيذي والجانب الرقابي مما يُمكننا من تصنيف الدول كأن نقول دولة مؤسسات أو دولة الحزب الواحد ودولة أخرى نقول عنها دولة ديمقراطية وأخرى نقول عنها دولة ديكتاتورية”، فمسميات الدول تختلف بإختلاف أنظمة الحكم والموقع الجغرافي والقدرات ومنظومة العلاقات الدولية.

• تحديات بناء وإستقرار الدولة: من خلال متابعة التغيرات السريعة والتحولات في منظومة العلاقات الإقليمية والدولية والتي تلعب دوراً كبيراً في بناء وإستقرار الدول علينا التوقف عند الحقائق والمعطيات التالية والتي من شأنها التأثير على إستقرار الدول بعد أن أصبحنا نرى ونسمع أن هناك دول متهالكة ودول آيلة للسقوط ودول مُثقلة بالديون والامراض والفقر والبطالة وغياب العدالة الإجتماعية، ودول لا تملك إدارة أزماتها ولا حتى إدارة مؤسساتها، وهنا نطرح السؤال التالي: هل يمكن بناء دولة المؤسسات في ظل المتغيرات والتحديات التالية؟

أ. التحولات في التحالفات الإقليمية والدولية وتهديدات الفضاء الإلكتروني وانعكاس التطور التكنولوجي على كل مناحي الحياة، بما فيها تماسك مكونات المجتمع الواحد في ظل الغزو الفكري والثقافي العابر للحدود ووفرة وسائل التواصل الاجتماعي والثورة الإعلامية العالمية الحالية.

ب. النمو السكاني وزيادة الطلب على الماء والغذاء وظهور تحديات البيئة وشحّ الموارد، وإتساع جغرافيا الجوع في العديد من الدول بالإضافة إلى تدفق اللاجئين إلى معظم دول العالم بسبب الحروب والصراعات الطائفية والحروب المذهبية .

جـ. ظهور حروب الجيل الرابع والخامس التي أصبحت تُركز على توظيف الشبكات الإقتصادية والسياسية والعسكرية والإجتماعية والثقافية للحد من طموحات الدول لتحقيق مصالحها وخدمة شعوبها، حيث تهدف هذه الحروب إلى إزالة الحدود بين الدول من خلال الإرهاب والعنف الذي يضرب في كل مكان وضعف إرادة الدول في إتخاذ قرارات حاسمة.

د. إن التحدي الأكبر لبناء الدول هو الأوضاع الغير مستقرة التي تُعاني منها بعض دول العالم التي ظهرت فيها حروب غير مُقيدة مثل المخدرات والحروب الطائفية والتحكم بمواردها من قوى إقليمية ودولية وإثارة الرأي العام وإظهار فشل الدولة، وإستهداف قادة هذه الدول بدل من إستهداف القوات العسكرية الميدانية، وما يجري الآن في سوريا والعراق وليبيا وغيرها من الدول ما هو إلا ترجمة حقيقية للأوضاع غير المستقرة والتي ساهمت في التأثير على بناء الدولة الحديثة.

هـ. إن بناء الدولة يتطلب أن يكون هناك مقومات أساسية منها توفر مركز ثقل واضح للدولة وأن تكون العلاقة بين مكونات /عناصر الدولة الثلاث علاقة تكاملية فلا يُمكن أن تبقى الدولة مستقرة إذا لم ينتمي الشعب لأرضه ويُضحي من أجلها، ولا يُعقل أن تبقى الدولة مستقرة ما لم يلتف الشعب حول قيادته الحاكمة وبالمقابل من المستحيل أن تستقر الدولة أو تنمو أو تتطور مالم تهتم القيادة بالشعب والأرض فالدول التي لا تنمو لا تكون آمنة والعكس صحيح.

و. من هنا فإن على المخطط الإستراتيجي في الدولة أن يُركز على الموازنة بين إستخدام القوة الناعمة والقوة الصلبة في إدارة الأزمات الداخلية والخارجية للدولة، كما على كل مؤسسات الدولة أن تعمل على تعزيز وتماسك الجبهة الداخلية، بعد أن أصبحت طاقة الإنسان وعقله هدف التنظيمات الإرهابية المتطرفة في ظل سعيها الدائم لنشر الفوضى والدمار في العالم، إن غياب تجانس الشعب وإرتباطه بقيادته وزعزعـة الأمن الإجتماعي ستؤدي إلى زوال الدولة وإنهيارها.

ز. إن بناء الدولة في ظل الأوضاع غير المستقرة التي يمر بها العالم يتطلب إدراك واضح أن هناك تغيرات جوهرية متسارعة اثرت على مجالات الصراع وأدواته، إضافة إلى أن منظومة العلاقات الأقليمية والدولية اليوم أصبحت تُعاني من تصدعات وتحديات كبيرة وكثيرة.

ح. لقد مر العالم بأحداث عملت الفارق في التاريخ وأثرت بشكل واضح في بناء الدول بمفهومه الشامل، فبعد عام ١٩٩١م، وبعد إنهيار جدار برلين تحول العالم من نظام ثنائي القطبية الى نظام أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة ولغاية عام ٢٠٠٨م، حيث إنتقل العالم إلى نظام شبه تعددي تقوده أطراف خماسية هي “الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، الصين ، اليابان، والإتحاد الاوروبي”، أما اليوم فتتحكم فيه ٣ دول إقتصادياً وعسكرياً هي الولايات المتحدة وروسيا والصين وهذه هي الترجمة الحقيقية للأوضاع غير المستقرة التي أثرت على أوروبا كلها ومعظم دول الشرق الأوسط فمن الصعب وفي ظل هذه المعطيات والتحولات أن نتحدث عن بناء دول بالمفهوم الحقيقي والسليم.

– بعد هذا الإستعراض المختصر لمرتكزات بناء الدولة والتحديات التي تواجه إستقرار ونمو الدول، فمن الممكن أن نأخذ إحدى الدول العربية التي إبتليت بما يسمى “الربيع العربي”، لم يكتمل بناءها لأنها عانت ولا زالت تعاني من أوضاع غير مستقرة ونحن هنا نقصد ليبيا كدولة ذات سيادة تحولت إلى دولة والتي يمكن إعتبارها مثالاً لدولة تبنى تحت أوضاع غير مستقرة وتواجه تحديات كبيرة تمنع إكتمال عملية البناء وذلك لـ ٣ أسباب هي :

١. لا يوجد تماثل بين السلطة والدولة حيث أن هناك خلل بنيوي وهيكلي واضح فالرئيس القذافي السابق، كانت له أدواته الخاصة بالحكم وله كتائبه العسكرية الخاصة، كما أن مؤسسات الدولة كانت مختزلة ولا تتبع المعايير العالمية لإدارة دولة بالمعنى الصحيح وفي حالة صراع دائم على السلطة.

٢. الموروث التاريخي في ليبيا وتاريخ الإنقلاب والإنفراد في الحكم ودولة الرجل واحد ونظام الإستبداد والسلطوية وإتساع الفجوة بين الحاكم والشعب وطبقية المناصب والإمتيازات، وغياب العدالة في توزيع مكتسبات التنمية وغياب المصداقية والشفافية كلها تشكل أوضاعاً غير مستقرة لا تساعد على بناء الدولة المدنية الحديثة.

٣. حتى بعد رحيل القذافي لم يكن هناك توافقاً وطنياً لإدارة الدولة، مما أتاح المجال للتنظيمات الإرهابية أن تتمدد في ليبيا، وأن يلوح بالأفق من ينادي بتقسيم ليبيا إلى دويلات، وهذا بسبب صراع الإدارات على حساب مصالح الشعب، ولو كانت ليبيا دولة قائمة على ثوابت ومرتكزات وطنية وقواعد مؤسسية سليمة لما أصبحت اليوم في هذه الحالة بسبب الأوضاع غير المستقرة في الداخل وصراع على السلطة، بالإضافة إلى الأطماع الاقليمية والدولية الخارجية حيث تتقاطع مصالح الدول الكبرى والإقليمية في بعض الأحيان وتتضارب في معظمها.

• الخلاصة والإستنتاجات: لم يعد بناء الدول بيد الدول وحدها بل أصبح عملية معقدة يتشارك فيها العديد من الأطراف ذوي المصالح المتضاربة والتي لا تتقاطع كثيراً إلا في جزئيات بسيطة تفرضها السياسات والقوانين الدولية.

– إن التحولات التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط بما فيها من مهددات وتحديات كبيرة ومتنوعة تأثر بشكل مباشر على مفهوم بناء الدولة في أوضاع محلية وإقليمية ودولية غيرة مستقرة على رأسها المشروع الجيوسياسي الإيراني الذي يشكل أهم وأخطر عناصر عدم الإستقرار في الإقليم،

حيث نجد أن إيران هي الدولة الوحيدة في العالم التي ينص دستورها على تصدير الثورة من خلال أدوات أهمها الطائفية، حيث تعطي إيران لنفسها الحق في التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة إستناداً إلى مواد أصلية في الدستور وتُضفي على هذا التدخل شرعية سياسية وأخلاقية إدعاءاً، وهذا واضح من خلال الإستعانة بالأحزاب العراقية ذات التوجهات الطائفية الموالية لها لمليء الفراغ الجيوسياسي في العراق، وفي سوريا عبر دعم النظام وفي لبنان عبر دعم حزب الله وفي اليمن عبر دعم الحوثيين وتمكينهم بالسلاح للسيطرة على مؤسسات الدولة وحتى في بعض دول إفريقيا تحاول ان تتدخل بالبعد الديني والتمويل وإستخدام الإعلام والتضليل والخداع .

– إن المنطقة العربية لا زالت تعاني من عدم الإستقرار الداخلي وعناصر عدم الإستقرار الإقليمي والدولي ولهذا ستبقى دول الشرق الاوسط غير مستقرة وغير آمنة ما دامت الأوضاع بمجملها مرشحة لمزيد من التصعيد والعنف وهذه أهم معوقات بناء الدولة الحديثة.

– وختاماً، علينا في السودان، الإستفادة من تجاربنا الماضية، وتجارب الدول الأخري، نأخذ المفيد، ونحطاط من السيئ، لبناء دولة قوية، خاصة بعد الإنفتاح العالمي علي السودان، والمرحلة الجديدة التي دخلها السودان، والإلتفات إلي بناء الدولة، ورفاهية المواطن.

بقلم
أسد البراري

Exit mobile version