العربات التي قدمتها حكومة جنوب السودان أغلبها من مخلفات الحرب والصراع الدائر حالياً بين “سلفاكير” وفرقائه من القادة.. وهي سيارات قديمة متهالكة لا تقوى على شق الطرق الوعرة التي اختارت حركة “مناوي” السير عبرها.. وقال مصدر عسكري خبير إن تحركات متمردي دارفور من داخل الجنوب كانت معروفة ومكشوفة وقد أفصح عن ذلك علناً الفريق “أسامة مختار” نائب مدير جهاز الأمن والمخابرات، وهو يتحدث في منطقة عشيراية بشرق دارفور وهو يقول نحن من حدد ساعة الصفر ومكان المعركة وكنا نتوقع بعد الإشارة المباشرة التي بعث بها الرئيس “البشير” في احتفالية قوات الدعم السريع بتخريج الجنود الجدد، أن تعيد حركة التمرد ترتيب خطتها.. وحساباتها لكنها لم تفعل. وإشارة الفريق “أسامة مختار” تكشف عن قدرات لجهاز الأمن السوداني وتغلغل رجالات “محمد عطا” داخل مفاصل جيش “مناوي” لقيادته حيث يشاركه جهاز الأمن.. وربما لهذا السبب لا تثق الحركة الشعبية قطاع الشمال في كل الحركات المسلحة الدارفورية وخاصة العدل والمساواة التي تم اقتيادها من قبل إلى (قوز دنقو) والقضاء عليها هناك مثلما تم القضاء على حركة “مناوي” في كل من وادي هور ومحلية عسلاية.. ولو كانت حركة “مناوي” (مخيرة) وليست مسيرة لما سلكت طريقاً يضعها لقمة سهلة أمام أيادي فرسان الرزيقات قبل فرسان الدعم السريع.. ويقول المصدر العسكري إن قوات “مناوي” لو سلكت طريق أم دافوق لكان وصولها لجبل مرة ثم التوجه شمالاً إلى مقاصدها في وادي هور ممكناً.. وبعد دخول القوات منطقة عسلاية اختارت غابة بالقرب من المنطقة التي كانت تعرف في الزمان القديم (بقميلاية) وأصبحت اليوم عسلاية.. وبينما النسوة من الرزيقات يحتطبن في تلك الغابة التقين بمتمردي “مناوي” وسألت النساء أنتم ماشين وين، وكانت الإجابة (هذه المنطقة منذ اليوم أصبحت محررة).. ضحكت امرأة في العقد السادس من العمر وقالت (الكلام دا بتابو هسة الرجال بجوكم). لم تمضِ ساعة حتى خرجت الأرض الطينية الأفاعي السامة.. وضرب العرب من الرزيقات المحاميد والماهرية نحاس الحرب قبل أن توجه قيادة اللواء في الضعين عربات اللاندكروزر نحو منطقة عشيراية.. كان قائد الجيش يصد المواطنين من المتمردين حتى لا يفسدون خطة وضعتها القيادة العامة في الخرطوم للقضاء على القوات القادمة من دولة الجنوب، وكان الفريق “جمال عمر” مدير إدارة الاستخبارات العسكرية في الخرطوم والفريق “السر حسين” أكثر قلقاً من اندفاع المواطنين لقتال المتمردين، لأن أي خلل في الخطة التي وضعت قد يجعل بعض المتمردين يهربون من الميدان.. والخطة التي تم الاتفاق على تنفيذها القضاء على القوات تماماً.. وضابط المخابرات المصرية في “كمبالا” كان يطمئن “مناوي” و”نمر عبد الرحمن” المنشق عن “عبد الواحد محمد نور” والرافض لنصائح بعض عشيرته بالبقاء في قمة جبل مرة بعيداً عن سرونق وتحصين قواته محدودة العدد بكهوف قمة الجبل، لكنه رفض ونزل إلى الأرض وحينما يقول له ضابط المخابرات المصرية “معتز” إن قوات الدعم السريع التي يخشاها المتمردون وترتعد أطرافهم مجرد ذكر اسمها بأنها بعيدة عن مسرح المعارك المرتقبة، وقد تم الدفع بها إلى حرب اليمن.. وأن الـ(11) ألف مقاتل الذين تم تخريجهم في الساحة الخضراء سيتوجهون من الخرطوم إلى الصحراء اليمنية، يتهلل وجه “نمر عبد الرحمن” ويضحك “مصطفى أدروب”، وكلاهما اليوم خلف الجدران الصامتة أسرى حرب ينتظرون المحاكمة في الأيام القادمة.
من واقع معركة وادي هور وعشيراية فإن مخطط “مني أركو مناوي” قد فشل بالاستيلاء على أراضي واسعة من أقاصي شمال دارفور وبسط سيطرته على محليات أم برو وكارنوي والتمركز في المنطقة الشمالية وانتظار المفاوضات التي يجري الترتيب لها بواسطة الآلية الأفريقية رفيعة المستوى والحكومة القطرية.. و”مناوي” لن ينسى ما حدث في آخر مفاوضات جرت في “أديس أبابا” حينما سأله د.”محمد مختار” عن مناطق تواجد قوات الحركات وكانت إجابة “مناوي” و”جبريل” بعد صمت ودهشة بأنهم موجودون في كل بقاع إقليم دارفور، وهنا سألهم اللواء “مصطفى محمد مصطفى” نائب مدير الاستخبارات هل لديكم وجود عسكري في نيالا والفاشر والضعين وزالنجي.. صمت الجميع وقال “أمبيكي” أين تتواجد قواتكم في دارفور.. وهنا تفتقت عبقرية د.”جبريل” لإجابة ذرائعية حينما قال إن الحكومة تطالبهم بتحديد مواقع قواتهم حتى تتساقط على رؤوسهم قاذفات اللهب من طائرات الأنتنوف.. لكن ما حدث في وادي هور يكشف عن اختراق كبير لصفوف الحركة المسلحة من قبل الأمن والمخابرات السودانية التي تقود ضحاياها حيث تشاء ليلقون حتفهم في عمليات استدراج تبدأ من خارج الحدود وتنتهي بهم إلى مقبرة، كالذي حدث في محلية عسلاية ووادي هور بشمال دارفور الأسبوع الماضي وهو حدث له ما بعده.. ومثلما شكلت عملية (استدراج) حركة العدل والمساواة لقوز دنقو نهاية لها فإن “مناوي” لقي مصرعه في عشيراية ووادي هور وقد أطلق الفريق “محمد حمدان دقلو” لسانه ليقول إن متمردي دارفور يعوزهم العقل السليم والرؤى وتحملهم الغبائن لتخريب ديارهم، وهم يواجهون قوات الدعم السريع التي لا يستطيع أحد الوقوف في وجهها.
{ خطاب الحكومة في البرلمان
لم يجد الخطاب الذي قدمته الحكومة في البرلمان الأسبوع الماضي حظه من الذيوع والانتشار والتحليل والقراءة من قبل كُتاب الرأي في الصحف أو المحللين في القنوات الفضائية، ومر الخطاب الذي طغت عليه روح التمسك بثوابت الدين وحدد بصورة قاطعة التزامات أخلاقية للحكومة بالتقشف في الصرف والحفاظ على المال العام.. ولكن الخطاب خلا من خطة محددة الآجال لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني.. وكان حرياً بالعقل السياسي والتنفيذي والإعلامي الذي يساعد رئيس الوزراء أن يجعل الخطاب متاحاً أمام الرأي العام عبر نسخ إلكترونية وفي الواتساب ونسخة ورقية يتم تداولها على نطاق شعبي واسع ويجد الخطاب الاهتمام الذي يستحق كأول خطاب للحكومة أمام البرلمان، لم يتخلَّ هو الآخر عن عاداته القديمة في (التصفيق) وتمت إحالة الخطاب إلى لجنة برئاسة الأستاذة “عائشة محمد صالح” في غياب أستاذة هندسة الرد على خطاب الحكومة “بدرية سليمان” رداها الله للوطن وأسبغ عليها العافية.. والبرلمان حتماً في العشرة الأوائل من رمضان لن يتوانى في إجازة خطاب الحكومة الأول دون مراجعات أو حتى تصويب الأخطاء التي وردت فيه.. وإذا كان الوزير “أحمد سعد عمر” ووزير الدولة “جمال محمود” قائمين على أمر مجلس الوزراء إخراجاً وإعداداً وترويجاً لبرنامج الحكومة، فإن دورهما إزاء الخطاب الأول للحكومة ظاهرياً يبدو شكلياً وضعيفاً وربما كان لغياب وزير الإعلام د.”أحمد بلال عثمان” المتواجد في الصين ووزير الدولة “ياسر يوسف” المتواجد في تركيا أثره على ضعف اهتمام حتى الإعلام الحكومي بخطاب الفريق “بكري” الذي يستحق أن تفرد له مساحات بدلاً من الغناء والمديح والجرعات الدينية المملة قبل رمضان وحتى تجد نشاطات الحكومة حظها في الوسائط الإعلامية، فإن مجلس الوزراء ليس في حاجة لناطق باسمه بقدر حاجته لعقل إعلامي يخطط وينفذ ما يعين الحكومة على الظهور أمام شعبها بملابس تليق بها.. وقد يعين رئيس الوزراء من يثق فيه من أهل الولاء.. ولكن المطلوب عقل مفتوح.. وقدرات على التواصل مع الآخرين من أجل الرأي العام.. الذي يلعب دوراً مهماً في نجاح وفشل التجربة التي يجتهد الفريق “بكري حسن صالح” لوحده الآن لتبييض وجهها.. ولكن “بكري” حتى اليوم تساعده نخبة من التنفيذيين أصحاب القدرات المحدودة جداً في أداء مهام كبيرة.. والحكومة تعمل اليوم وهي صامتة.. وتلك من حسناتها.. إلا أن الوضع الصامت لا ينبغي له أن يستمر طويلاً وكثير من أعضاء الحكومة أي الوزراء هم قيادات في أحزابهم ليعبروا عنها وليسوا موظفي خدمة مدنية.
إلا أن نقطة ضعف الحكومة التي كان حرياً بالفريق “بكري حسن صالح” (سدها) تمثلت في فشل الحكومة اختيار وزير عدل سواء كان ذلك بتجديد الثقة في الوزير الموقوف إجرائياً “أبو بكر حمد” بدعوى تزوير شهادة الدكتوراه.. ودفاعه عن نفسه في كل المنابر.. واتهامه للمؤتمر الشعبي بالتجني عليه.. وإذا اقتنعت الحكومة أو اقتنع الجنرال “بكري حسن صالح” بأن تعيين “أبو بكر حمد” بات صعباً أو مستحيلاً، فإن أمام الجنرال “بكري” خيارات عديدة.. في بلد بها أكثر من (20) كلية قانون.. وتبلغ عضوية القضاء الواقف من المحامين (7) آلاف محامٍ.. وعدد القضاة نحو (5) آلاف قاضٍ، فكيف تتلكأ الحكومة في اختيار وزير عدل حتى تبدو صورتها كالعاجز عن فعل مقدور عليه؟؟ وإذا كان د.”أبو بكر حمد” الموقوف على ذمة فحص شهاداته جاء إلى الوزارة بادعاء أنه يمثل المستقلين ولا ينتمي لأي حزب سياسي في الوقت الراهن، فإن المستقلين في هذا البلد عن الأحزاب أو (القنعانين) من خيراً فيها لا يمكن إحصاؤهم وفي أية جامعة هناك عميد كلية يمكن اختياره باطمئنان لشغل المنصب الذي أصبح ليس له أهمية كبيرة بعد فصل النيابة عنه.. وإذا كان المؤتمر الوطني قد تبرع بالمنصب للمستقلين.. ولم يجد ما يناسب المقاس الذي يطلبه الجنرال “بكري” فالمؤتمر يستطيع إعادة المنصب لنفسه وترشيح واحد من الكفاءات التي يذخر بها من نقيب المحامين “الطيب هارون” أو المحامي “هاشم أبو بكر الجعلي”.. أو حتى “أمين بناني نيو” الذي يتزعم حزباً هامشياً في الساحة اسمه حزب العدالة القومي، و”أمين” أقرب للمؤتمر الوطني بالمواقف والمصاهرة مع أسرة الرئيس وتمثيل عشيرة الهبانية الذين تجاوزهم التعيين بعد أن كان مرشحاً تولي “محمد عبد الرحمن مدلل” منصباً في الحكومة الاتحادية.. وإذا كان المؤتمر الوطني قد تبرع بمنصب مساعد الرئيس للشيخ “إبراهيم السنوسي” رئيس شورى المؤتمر الشعبي والأمين العام الذي تنحى قبل شهرين وأصبح “السنوسي” مساعداً للرئيس ولكنه خارج حصة المؤتمر الشعبي في المقعد الذي غادره “الدقير” غاضباً إلى لندن، فإن منصب وزير العدل قد يتبرع به المؤتمر الوطني لصديق الحزب “أمين بناني” أو يمنحه إلى الفريق “صديق محمد إسماعيل” نائب رئيس حزب الأمة القريب جداً من المؤتمر الوطني والذي سعى من قبل حثيثاً لقيادة حزبه للتقارب مع الوطني ولكنه فشل.. كما أن المنصب يمكن أن تتم ترضية د.”التجاني سيسي” به مع إضافة نائب رئيس مجلس الوزراء.. و”السيسي” يستحق مكاناً في الحكومة الحالية تقديراً لما قدمه من عطاء في السنوات الماضية وتعويضاً عن توقيع اتفاق مع حركة العدل والمساواة التي صمم القطريون مفاوضات الدوحة من أجلها.. وحينما فشلوا في اصطياد الغزال ارتضوا بالأرنب.. وفي ذلك خير لمصلحة دارفور والسودان.
المجهر السياسي