يصعب التحرك فيه عقب غروب الشمس (جول مديد).. قلعة الخمور والجريمة

المنطقة مفرخ أساسي لعصابات (النيقز)

مواطنون: نخشى التجول بعد المغرب

الأطفال يتعاطون الخمور كأنها مياه شرب

بموقف مواصلات سوق الـ(15) بأبوسعد وأمام الحافلة المتجهة صوب مدينة ود البشير وقفت مجموعة شباب في أعمار تتراوح بين (19 ـ 25) سنة يثير وضعهم الغثيان .. عرق جاف .. جروح وأوساخ على أجسادهم.. وجوه كدرة ..وثياب بالية وتفوح منهم روائح كريهة، أحدثوا نوعاً من الضجة ثم تقاسموا مبلغاً مالياً وصعدوا إلى المركبة وانتشروا في المقاعد ، تذمر الركاب من هيئتهم ورائحتهم، ولكن الجميع التزم الصمت تجنباً للمشاكل، تحركت بنا (الحافلة) في طريق ترابي حتى وصلنا شارع اسمه (شارع الأربعين) فترجل الشباب واتجهوا نحو منطقة عشوائية في اتجاه الجنوب ورويدًا رويداً اختفوا عن الأنظار التي كانت تتابعهم، واصلت الحافلة السير في اتجاه الغرب حيث تقع منطقة ود البشير التي قصدتها .

مكمن الخطر
بعد أن أنهيت مهمتي الصحفية في ود البشير، وقبل مغادرة المكان نهض أحد المواطنين الذين التقيتهم وأشار بيده إلى جهة الجنوب وأخبرني بأن تلك العشوائيات مصدر قلق لكل سكان المناطق الواقعة غرب وجنوب أمدرمان، فإذا دخلها شخص غريب بعد المغرب سيخرج منها جثة هامدة لأنها معروفة بالجرائم وسفك الدماء .. استفسرت عن هذه المنطقة فدلني رئيس واحدة من اللجان الشعبية على موقعها وحذرني من دخولها بمفردي لخطورتها، ورأى مرافقتي باعتباره ملمًا بمداخلها فاستقللنا (رقشة) واتجهنا نحو الجنوب حيث المساحات والأراضي الشاسعة التي تحيط بها المباني العشوائية من كل الاتجاهات يتواجد بها أشخاص يبدو عليهم العناء نائمون على الأرض وتحت ظل المباني المتآكلة وكأنهم موتى .

رعب وخوف
في الثالثة ظهراً دخلنا المنطقة المعنية واسمها (جول مديد) الواقعة في الحدود الجنوبية لمدينة أبوسعد، لم يكن التجوال بالأمر الساهل فالمكان عبارة عن (رواكيب) منتشرة هنا وهناك، داخل كل واحدة يسترخي عدد كبير من الرجال والشباب على كراسٍ بلاستيكية متحلقين حول إحدى النساء وبجانبها وعاء كبير (جردل) يتسامرون ويضحكون بأصوات عالية، وهناك أماكن مخصصة لصناعة (الخمر) بمختلف أنواعها يقف على إدارتها رجال ونساء متقدمون في السن وبعض الفتيات يسوقن المشروب الذي يحملنه في أوانٍ متوسطة الحجم ويتجهن به نحو الرواكيب ولكل بائعة زبائن ، وبعض الأطفال يتناولون المشروب المعبأ في (كبابي) كالماء المثلج ..

أثناء تجوالنا بـ(الرقشة) لمحت رجلاً طاعناً في السن جالساً متقززًا على كومة، ويلتفت في كل الاتجاهات، عشرات الأعين البائسة ترنو إليه أشعل (سيجارته) فأقبلوا عليه كالعصافير تحلق فوق ثعبان، مجموعة الشباب الذين أحدثوا الضجة بموقف المواصلات سابقاً، ألقى لهم علبة التبغ تعاركوا عليها وجلس أحدهم جواره وهو (ثمل) ينتظر عقب السيجارة دفعها إليه جذب أنفاساً نهمة حتى فاح احتراق (الفلتر) نفخ وهج عقب السيجارة حتى لا ينطفئ رمقهم بنظرة بائسة وتركهم وذهب ببطء متكئا على عصا صوب أحد الأركان ليتفقد ما بداخل براميل الحديد الكبيرة وهي على النار، وفجأة أطلت من على البعد مجموعة أخرى من الشباب يحملون العصي وأخر يحمل (ساطوراً) ملامحهم مرعبة وغير مطمئنة وكأنهم قادمون من ساحة حرب، فأدخلت نظرات أعينهم ذات اللون الأحمر الرعب في نفوسنا شعرت لحظتها بأني داخل القلعة الأمريكية لأفلام (العصابات ومصاصي الدماء) فهمهم صاحب الرقشة بصوت منخفض (أها يا بتنا تواصلي ولا نرجع) لكننا واصلنا الجولة.

متعة الحياة
يعج مكان التجهيز والبيع الذي يسمى (المول) بحركة ونشاط بل هو سودان مصغر (للخمور) كما وصفه البعض يباع فيه الشراب تحت مسميات حديثة منها (الفكي نط الشوك ـ والقرنانة) فعدد الرواكيب الواقعة جنوب شارع الأربعين ود البشير لا حدود لها، رحب بنا بعض جالسيها ودعونا لمشاركتهم الحديثـ نوع من الاطمئنان تسرب إلى نفسي وبعد التحية شرحت لهم مهمتي، في البداية كشروا أنيابهم ولكن إحدى النساء تدعى (ليلى) اقتربت مني وحكت أنها تعول تسعة يتامى عملت في كل المجالات الهامشية وآخرها بيع (الكسرة والشاي) لكنها لم تنج من (الكشات) والغرامات، فالظروف التي تعيشها سيئة جداً دخلت مول (الخمور ) باعتباره غير مكلف واختارت مكانها وخلقت زبائن يدعمونها وقت الشدة، لم يختلف الوضع بالنسبة لـ(حواء توتو) وهي أقدم بائعة للخمر بذلك المكان قالت لـ(الصيحة ): صناعة الخمور واحدة من تقاليد وعادات قبيلتها تجد فيها متعة حقيقية رغم ضعف الإيرادات وتغنيها عن الحاجة وسؤال الناس ، وتضمن لها حياة مستقرة بعض الشيء، في السابق كانت قوات الشرطة مهدداً للصناعة، ولكن استطاع عدد كبير من أبناء المنطقة الذين يتناولون الخمر حماية السوق وفرض سيطرتهم عليه، رغم ذلك تظل مثل غيرها تخبئ مكونات الشراب داخل (مخابئهم ) التي لا تتمكن الشرطة من الوصول إليها.

التقط خيط الحديث (شوقي) (45) عاماً كان يجلس بالقرب من حواء ويتناول (شرابه) قائلاً: (نحن بنشرب الخمور من صباح الرحمن من العلينا والكاتمنوا في القلوب كتير)، فالدولة لو نظرت لهؤلاء الناس برحمة وانتشلتهم من المكان لن يلجأ أمثالنا لينفسوا عن أنفسهم فكل المتواجدين هنا يشربون من (العليهم) يعانون العطالة وفي بعض الأحيان يعملون برزق اليوم وتناول الخمر والسمر مع المجموعات يذهب الهم ويكفي شر الأمراض.

فتيلة حرب
تناول الخمور أخف شيء يمكن فعله كما يرى (علي طه) فالحياة عنده صارت تشبه يوماً معاداً وروتيناً جميلاً لا يسعى لتغييره ويجد فيه ملاذه، كل الذين التقيتهم يقضون النهار داخل (الرواكيب) تلفح وجوههم الرياح الحارة من كل جانب لكنهم يجدون المتعة يعيشون ظروفاً سيئة، إما بسبب العطالة أو الهروب من المشاكل التي تواجههم، التعايش السلمي الذي تنعم به المنطقة أوقات النهار ينقلب مائة درجة بعد المغرب عندما يأتي ساكنو معسكر يقع بالقرب من المنطقة فيتحول المكان لساحة دماء بسبب عصابات (النيقز) الذين ينتشرون بعد غروب الشمس ويملأون الشوارع ويتجولون بحرية شديدة غير مكترثين بالشرطة أو غيرها كما يفيد السكان قاطنو المنطقة الذين يلزمون منازلهم طوال الليل، وأفادني بعض السكان أن المنطقة تنسب لأحد سلاطين الجنوب اسمه (جول مديد) كانت تسكنها القبائل الجنوبية التي أثارت الفوضى بولاية الخرطوم أيام مقتل جون قرنق وبعد الانفصال سكنها أصحاب التعويضات القادمون من مربع الـ(17) والآن تعرف بمربع (58) وما زالت هناك قبائل جنوبية تأتي من معسكرات الجنوبيين بأمدرمان تقيم فيها، يوجد بالمربع ثلاثة آلاف منزل عشوائي يقيم فيه موظفون بمؤسسات الدولة كما يشير عبد الواحد مرجان مندو رئيس اللجنة الشعبية الذي التقيته داخل بسط الأمن الشامل الواقع وسط الحي، معتبرا الوضع الراهن فرضته القبائل المتداخلة التي يعمل (90%) من أبنائها في حمل النفايات وحفر مجاري الخريف ولأنها أعمال موسمية لا تغطي الاحتياجات يلجأون للسرقات وارتكاب الجرائم، مستغلين عدم تخطيط المربع الذي يفتقر لكل الخدمات، ففي منتصف التسعينات أصدر وزير التخطيط العمراني آنذاك قراراً بتخطيطه وتلته قرارات كثيرة، ولكن لا حياة لمن تنادي حالياً تقدم الخدمات من بعض منظمات المجتمع المدني التي تساهم في عمليات الختان الجماعي لأبناء المنطقة.

وجود أجنبي
لم يخف مرجان لـ(الصيحة) معلومة أن المكان مصدر إزعاج وإرهاب ومهدد أمني للمناطق الواقعة غرب وجنوب أم درمان ، كما أنه أكبر مفرخ لعصابات (النيقز) ما أدى لبروز العديد من المظاهر السالبة ويوجد به معسكر كبير جدًا للوجود الأجنبي فاقم المشكلة، وأردف: ” هناك ترتيبات تجري لتخطيط المنطقة وتوزيع السكن للمستحقين ويجب على السلطات تنفيذها بسرعة مع العمل على نظافة المنطقة من كل الظواهر السالبة نظراً لأن سوق الخمور يحتل مساحة شاسعة ويحتوي على جبال من التمور التي تبعث بروائحها ليلاً إلى الأسر المقيمة، ولو لا أن بعضاً من أبناء المنطقة يتولون مهمة حفظ النظام العام لتحول المكان إلى ساحة حرب، فبعد الخامسة مساء ينتشر أفراد الشرطة لتوفير الحماية، ولكن هناك مقاومة شديدة تتسبب في الإصابات المتبادلة، تشهد المنطقة بشكل يومي ارتفاعاً في حالات الأذى الجسيم كما يفيد الصول حمدان الأمين محمد مدير مكتب بسط الأمن الشامل قسم (18) أبوسعد غرب مربع (58) حيث تكثر جرائم القتل باستمرار، فحالات العنف أصبحت أمرًا طبيعياً ومعاشاً اعتاد عليه السكان والشرطة والعصابات، وانضم بصوته للمطالبة بالإسراع في التخطيط وتكوين قوات لتنظيف المنطقة قبل الخريف كما حدث في مربع (52) سابقاً الذي كان يمثل أكبر مجمع للخمور في البلاد، لتقليل جرائم السرقات والقتل معاً وبدورهم في المركز تم إعداد خطة لحفظ الأمن من خلال جمع كل القوات الأمنية المتوفرة وإدخالهم معسكراً لتعزيز عمليات تخطيط المنطقة التي وعد بها المسؤولون وحماية المواطنين، أحد المراقبين للوضع داخل المنطقة استبعد إمكانية زوال هذا العشوائي قبل زوال المسببات الرئيسية المتمثله في انتشار القبائل الجنوبية بهذا الشكل، والبحث عن فرص للعمل والأمن والخدمات متوقعاً تمدد الظاهرة ما لم تطبق السياسات والقرارات الصادرة من جهات الاختصاص، جهات كثيرة يقع على عاتقها تصحيح الوضع بمربع (58) وتعتبر محلية أمدرمان مسؤولة بشكل مباشرعن ما يدور باعتباره يقع في حدودها.

طرقت أبوابهم وتوجهت ببعض الأسئلة وتم وعدنا بالإجابة عليها لاحقاً، كما طرقت أبواب وزارة التخطيط العمراني والبنى التحتية وبطرفهم خطاب الصحيفة المؤجل الرد عليه .

بعد العرض
الحدود الغربية لأم درمان ممتلئة بالمناطق ذات المساحات الشاسعة والكثافة السكانية العالية، أغلبها عشوائيات غير مخططة وتبدو منسية تماماً سكانها فقراء ويشكون انعدام الخدمات بالكامل، (جول مديد) واحد من المناطق يمثل خطرًا ماثلاً لم تتمكن السلطات الأمنية حتى اليوم من مجابهته، فإلى أن ينظر في أمره، (متى وكيف) هذا ما نريد الإجابة عليه فوجوده داخل العاصمة في ظل النداءات والشعارات المرفوعة من قبل المختصين فضيحة كبيرة وأمر مؤسف ومخجل.

تحقيق : إنتصار فضل الله
صحيفة الصيحة

Exit mobile version