كثرت الدعاوي في الأونة الأخيرة عن تركيز الخدمات من صحة وتعليم وغيرها من أساسيات الحياة بعاصمة البلاد دون غيرها من مناطق السودان المتناثرة ونتيجة لهذه الدعاوى حمل أناس السلاح لاسترداد وانتزاع ما يجب أن يكون لهم من حظ من الخدمات والبنيات التحتية غير أني على قناعة تامة أن حاملي دعاوى التهميش إذا ما ساقتهم أقدامهم إلى مرمى حجر من عاصمة البلاد ووقفوا على الحال البائس الذي يعيشه سكان الريف الجنوبي من مدينة أمدرمان العاصمة الوطنية ومهد الحضارة وبؤرة التطور لن يصدقوا ما تقع أعينهم عليه من تردٍ بل انعدام البنيات التحتية وافتقار كثير من قرى الريف الجنوبي التي يفوق عددها السبعين إلى المرافق الخدمية إذ أنها مع كبر عددها لا يوجد بها سوى مستشفى واحد بقرية جبيل الطينة الذي شيد على نفقة ابن المنطقة رجل الأعمال المعروف بابكر حامد ود الجبل مع وجود «6» مراكز صحية ليس بها طبيب واحد.
وعلى ذلك قس أو تخيل كيف يكون حال التعليم فهناك قرى يهاجر ابناؤها من الطلاب إلى مناطق تبعد عنهم «8» كيلومترات لا يجدون سيارة تحملهم فيلجأون للسير على أرجلهم لقطع تلك المسافة يوميا ذهابا وإيابا ولا أظنكم في حاجة لايضاح مقدار التعب الذي يلاقيه هؤلاء الطلاب من أجل الحصول على حصتهم من التعليم، كما أن هناك هجرات مماثلة للحصول على ماء نقي للشرب يتحمل عبئها في الغالب الأعم نساء وأطفال تلك القرى عن طريق عربات الكارو التي تجرها الحمير ولا أظن أنه يخطر ببال أحد أن القِرب جمع قِربة «وهي لمن لا يعرفونها وعاء جلدي يدبغ وتحفظ فيه المياه لتبريدها » ما زالت تجد رواجا في بعض قرى الريف الشمالي لتبريد المياه جراء عدم توفر التيار الكهربائي وأسبابه، والزائر لقرى الريف الشمالي يرى مقدارا من البؤس والشقاء يكابده أهل تلك القرى التي قدم أهلها الكثير من التنازلات عن أراض لهم بغية تحقيق المصلحة العامة، وليس مطار الخرطوم الدولي الذي بدأ تشييده مؤخرا على أراضي أهل تلك القرى إلا خير دليل على تضحيات أهل الريف الجنوبي الذي آثروا المصلحة العامة على خدمة مآربهم الذاتية وقنعوا بما تم الاتفاق عليه مع الجهات الرسمية بخصوص تعويضهم ماديا وعينيا إلا أن لسان الحال يقول إن الحكومة لم تف بما تم التعاقد عليه إذ لم يتم صرف التعويضات المالية كاملة حتي تلك اللحظة ولم يتم تنفيذ شئ من التعويضات العينية لأي متنازل عن أرضه لانشاء المطار ومع ذلك كله لم يرفعوا صوتهم ولم يركنوا لركوب موجة المناهضة بل كل عشمهم انحصر في أن يتفيأوا ظلال نعمة إنشاء المطار على مرمى حجر منهم بأن يتنزل عليهم في إرساء البنيات التحتية بالمناطق المجاورة وتقديم كافة الخدمات التي يحتاجها أهل المناطق المتاخمة للمطار غير أن شيئا من هذا العشم لم يكن على أرض الواقع حتى كتابة هذه السطور .
ففي قرية بئر الجيلي التي تقع على بعد كيلومتر شمال شرقي مخطط مطار الخرطوم الدولي الجديد والتي تعوزها كافة الخدمات الضرورية من مدارس ومركز صحي ولا يوجد بها سوى وابور لضخ مياه الشرب يتنافس أطفال ونساء القرية على الحصول على ما تجود به فوهات، التقينا بالحاجة عائشة الزين أحمد التي وجدناها وبعلها العم عبد الصمد السنوسي عبد الله وطيبة أهل القرى تفوح منها فرحبت بنا ايما ترحيب ولسانها يلهج بعبارات الاعتذار عن عدم برودة العصير الذي سارعت بتقديمه إلينا وأرجعت سبب انعدام الكهرباء لعدم اهتمام المسؤولين بتقديم خدمة اساسية لأهل القرية الذين قدموا أراضيهم قربانا لانشاء المطار ومع ذلك كله لم يجدوا من خيرات تأسيسه شيئا حتى هذه اللحظة وتمنت ألا تخيب الآمال العراض التي بناها أهل قرية بئر الجيلي، وأرسلت مطالبات للمسؤولين عن المطار ومحلية أمدرمان للالتفات إلى ما هم عليه من افتقار للخدمات الأساسية ، وعندما سألتها عن تواجدها بمثل هكذا منطقة لا توجد فيها أدنى معينات الحياة أبانت أنها جاءت إلى هنا وزوجها للحفاظ على ما ورثته من أهلها من أرض يعز عليها مفارقتها وأضافت إنها إن لم تصبر على بلوائها وصعوبة حالها تلك لاضطرت للتعرض لما هو أكبر وأوقع على نفسها من نزع لتلك الأرض، وأردفت أنها هنا رغم الصعاب لتثبيت حقها المشروع في ملكية تلك الأرض وزادت بأن أهل المنطقة خاصة كبار السن منهم في حاجة ماسة لمد يد العون لهم في جانب التعليم ليتعلموا ما هو ضروري لدينهم وحياتهم وأنها على يقين أنهم سيستجيبون لدراسة مناهج محو الأمية، لكنها تساءلت أين هي منهم ؟ وقالت إن المسجد الوحيد مع صغر حجمه وقلة حيلته طالته يد الخراب ولم يعد يؤدي الدور المنوط به .
أما زوجها عبد الصمد السنوسي عبد الله الذي ولد في العام 1944 بقرية بئر الجيلي وهجرها إلى مدينة أمدرمان إلا أنه عاد إليها بعد حين من الدهر وعضد أبوته بالمثل الشعبي «العرجاء لمراحا» وقال إنه يملك 12 فدانا بمنطقة جبل العدارة التي اصبحت جزءا من المطار وانه الآن ينشط في الزراعة المطرية بمنطقة الدَخان التي تقع على مقربة من مكان سكنه وأخبرنا أنه أعد ترسه استعدادا لزراعة رقعته الزراعية واشتكى من قلة الخدمات بالقرية التي تقع على مرمى حجر من مطار الخرطوم الدولي الجديد، وقال يجب على الجميع خاصة المسؤولين ألا ينسوا أن أهل تلك المنطقة قدموا أراضيهم مهرا لخدمة البلاد قاطبة فمن باب أولى رد بعض الجميل إليهم بمنحهم حظهم من الخدمات الضرورية حتى لا ينطبق على المطار الجديد مثل ضل الدليب فيستفيد منه البعيدون عنه بينما يظل مجاوروه يكتوون بنيران الحرمان من حقوقهم المشروعة في التمتع بالخدمات، لا سيما أنهم بسطاء على قدر حالهم لذا يمدون أيديهم لمن يأخذ بها . ومن شباب المنطقة المستنيرين الحاملين للواء خدمتها النازرين جهدهم لجلب بعض المكتسبات الأساسية لها التقينا بحمزة ابراهيم السنوسي الذي تحدث لنا بحرقة عن إهمال الجهات المسؤولة وتقصيرها في تقديم أسط الخدمات الأساسية لأهل المنطقة جوار مطار الخرطوم الدولي الجديد، وذكر لنا أن إدارة المطار الجديد لم تف بالعقد الخاص بتعويضات الأهالي حيث أوفت بالجانب النقدي جزئيا ولم تلتزم بالجانب العيني بتمليك اي متضرر قطعة سكنية حول مخطط المطار خالية من الموانع قبل حلول 31/12/2007 ، وأوضح لنا أن عدد المتأثرين من تأسيس المطار 411 مواطنا استلم 90 منهم 50% من التعويض النقدي وأن 15 منهم تسلموا 25% من النقدي وأوقف المتبقي لدواعي تزوير مستنداتهم وأن 306 من المتأثرين استلموا 39% من قيمة التعويض المالي الكلي لهم بإقرار وتنازل فحواه أن الأرض التي تقدموا بملكيتها زائدة بجانب اشتماله على تنصل واضح من الايفاء بالجانب العيني القطع السكنية بأن أصبح تأريخ استلامها مفتوحا، وأضاف أن المسؤولين عن الريف الجنوبي الرسميين والشعبيين لا تتسارع خطاهم نحو المنطقة إلا للنزع ويتباطأون في تقديم الخدمات الأساسية لأهل المنطقة، وزاد بأن والي الخرطوم دكتورعبد الرحمن الخضر زار المطار
في 12/6/2009 وأمن على تنفيذ الشق العيني من تعويضات المطار، وقال إنهم في الريف ظلموا أنفسهم قبل أن يظلمهم الآخرون بتقديمهم لأناس لم يحسنوا تمثيلهم في المؤسسات التشريعية. وطالب حمزة المسؤولين بإيلاء منطقة الريف الجنوبي لا سيما المتاخمة لمطار الخرطوم الجديد حظها الوافر من الخدمات والرعاية .
وعند زيارتنا لأسرة الحاج حسب الرسول ناصر ابراهيم والذي علمنا أنه يمثل زعيما روحيا ودينيا بالمنطقة المؤلفة من ولد واحد و ثلاث بنات تخرجت إحداهن في كلية القانون والتحقت بسلك المحاماة والأخريان ما زالتا بالمرحلة الجامعية رغم المعاناة التي تتكبدها الواحدة منهن لتصل إلى موقع المواصلات التي توصلها إلى أمدرمان بقرية القليع التي تبعد أكثر من كيلو متر عن بئر الجيلي، أما ابنه الوحيد الذي لم يتجاوز عمره «15» عاما فقد وجدناه مسجيا بلا حراك يغط في سبات عميق جراء الانهاك والتعب الذي لحق بجسده النحيل حيث لم توقظه دردشتنا مع والده بالقرب منه فعرفنا أنه يقطع ما يزيد عن «15» كيلو مترا في رحلتي ذهابه وإيابه للمدرسة الثانوية التي يدرس بها يوميا ، وتساءلنا في حيرة كيف يستوعب مثل هكذا منهك ومتعب ؟ فعرفنا أنه بالرغم من تلك الرحلة المضنية يوميا إلا أنه يحرز تفوقا ملحوظا في دراسته وكم شدني منظر الحاجة أم أولاده وهي تحاول ارواء ظمأنا من ماء محفوظ في قربة معلقة على راكوبة منصوبة أمام إحدى غرف المنزل، فسهمت طافقا في مقدار البساطة التي يعيش في كنفها أهل الريف الجنوبي لأمدرمان رغم قربهم من وسائط الحضارة والتمدن وقد علمنا أن محاولات العم حسب الرسول للتحايل على ظلام الليالي البهيم قد باءت بالفشل رغم اجتهاده في اقتناء مولد كهرباء إلا أن علو كعب تكلفة التشغيل وارتفاع اسعار الصيانة جعلته يقنع بالاضاءة بالفانوس .
ومررنا على مسجد القرية الوحيد فوجدناه في حالة بالية يرثى لها إذ أن محرابه المكون من الطين قد انهار والمظلة الملحقة به من الشمال ذهبت أدراج الرياح ولم يتبق منها سوى حطامها المترامي على الأرض وعرفنا أن أهل القرية بحوزتهم تصديق مسجد يمكن بناؤه على طراز حديث إلا أن قصر ذات أيدي أهل المنطقة لا يؤهلهم لتشييده لذا يوفرون فرصة للتسابق على فعل الخيرات لمن يسخر الله له ذلك من المحسنين من داخل وخارج البلاد .
وغير بعيد عن قرية بئر الجيلي دلفنا إلى قرية التريس التي تمتلك من المؤسسات الخدمية ما لا يتوفر لسابقتها وقبل وصولنا إليها مررنا على مشروع الجموعية الزراعي الذي تقع على خاصرته التريس فلفت نظرنا أن عددا لا يستهان به من وابورات ضخ المياه تلهث لارواء زروع المزارعين المختلفة، وعند سؤالنا عن استخدامها أبان لنا عدد من المزارعين ان قلة منسوب المياه المخصص للزراعة هو السبب وراء لجوئهم للوابورات رغم ارتفاع تكلفة تشغيلها ، وذكروا أن الحل لتلك المعضلة يكمن في فصل كهرباء المشروع عن كهرباء المساكن، وطالبوا المسؤولين بتوفير مدخلات الانتاج لمحاصيلهم بأسعار مدعومة، و ذكر أحدهم أنه لثلاثة ايام لم ير اهله لأنه مرابط لري مزرعته، فيما اشتكى بعضهم من تقصير إدارة المشروع ووصفوها بالخاملة بجانب ارتفاع الرسوم والجبايات وكثرة الغرامات التي تفرضها شرطة المرور على سيارات ترحيل محاصيلهم إلى داخل المدينة .
وعلى مدخل قرية التريس من الجهة الغربية وقفنا على خلوة وروضة قوز نايل بالتريس جنوب التي لم يكتمل مشروع تحديث بنائها، وأوضح لنا الحاج السعيد سليمان والطيب إدريس من أعيان البلد أن الطلاب يتنقلون من منزل لآخر وطالبوا المسؤولين بالتدخل العاجل لاكمال هذا المرفق الحيوي المهم الذي تم على يديه تخريج أكثر من 300 دارس بمحو الأمية، وليس بعيدا المركز الصحي المتوقف هو الآخر جراء أعمال الصيانة ويستعاض عنه بمنزل لأحد أفراد القرية استئذن في استضافته لشهر واحد إلا أن الأمر امتد لأكثر من ثمانية أشهر، وقال لنا السعيد الطيب أن التريس في حاجة ماسة لترميم واكمال ردمية الطريق الذي يربطها بشارع الأسفلت لأن المواطنين يعانون الأمرين في فترة الخريف حيث يصعب الدخول أو الخروج من القرية، وأوضحوا لنا عن تردي خدمات صحة البيئة بالقرية ووقفنا على كثير من «الكوش» وتجمعات الأوساخ المترامية في جميع أرجاء القرية، وناشد أهل التريس وزارة الصحة لتبني إكمال مشروع المركز الصحي وتحريك عجلة صحة البيئة بالمنطقة وسجلوا صوت شكر لمعتمد أمدرمان الحالي الفاتح عز الدين وسابقيه لما بذلوه معهم من أجل رفعة المنطقة .
محمد صديق أحمد علي :الصحافة