كنت أعجب كثيرًا لأن بيننا من يسيء الظن بكل منتجات ومخترعات ما يسمى بالعصر الحديث، وكان مصدر عجبي أننا صرنا ومنذ أكثر من عشرة قرون أمة مستهلكة لإنتاج وإبداع الآخرين، وأن دورنا اقتصر على الرفض وسوء الظن بكل ما يأتينا من الخارج، وعلى مدى السنوات العشرين الأخيرة سمعنا العويل عن كيف أن جهاز النداء )البيدجر الذي ينطقه الكثيرون »بيجر«(، سيفسد أخلاق البنات، ثم كانت الطامة ظهور الهواتف الجوالة، وقرأت العديد من المقالات كتب فيها رجال بأنهم – ويا للهول – رأوا بنات يستخدمن ذلك النوع من الهواتف في أماكن عامة، وكأنما لا يجوز للبنات استخدام تلك الهواتف إلا في غرف مغلقة أو دورات المياه، وأذكر أنه أتى علينا حين من الدهر كنا نعتبر فيه لوك/ علك البنات للبان/ العلكة »قلة أدب«، أما إذا أحدثت العلكة فرقعة فقد كان هذا دليلا على أن الفتاة التي صدر عن فمها الصوت »منحرفة« أو شبه منحرفة
ولكن القفزات العلمية المتسارعة في السنوات الأخيرة جعلتني أيضًا أنضم إلى من يسيئون الظن بمعظم منتجات العصر، الخضراوات والفواكه المعدلة وراثيًا، وفرن المايكروويف يعد خلال دقائق وجبة لا طعم لها ولا رائحة، وغيرها من المخترعات، ولكن الهاتف الذكي صار قاتلا للتواصل الاجتماعي، فقد صار العيال وكما هو حادث في معظم البيوت يجلسون معك وهم ليسوا معك: أصابعهم تمسح شاشة التلفون يمينا ويسارا ويبتسمون أو يضحكون فتوجه إليهم سؤالا، ولكنك لا تتلقى الإجابة
ولم أمتلك هاتفا جوالا، إلا بعد أن صار عيال رياض الأطفال يعايرونني بأنني لا أملك موبايل، وحسبت بادئ الأمر أنني قادر على حصر اتصالاتي بالهاتف الجوال، ولم أخبر إلا نحو ثلاثة أشخاص برقم هاتفي، وحذرتهم من إبلاغ أي شخص بأنني أمتلك هاتفا جوالا، ولكن ما حدث هو أن كل واحد من أولئك الثلاثة أبلغ ثلاثة آخرين برقم هاتفي، وطلبوا منهم عدم إبلاغ أي شخص بالرقم و»إياك تقول لأبو الجعافر إني أعطيتك الرقم«، وهكذا وخلال شهر واحد كانت حتى السي آي إيه تعرف رقم هاتفي الجوال، وبعد الانتشار الوبائي لهذا الهاتف قال عيالي إنهم ليسوا »أقل« من سعود وصلبوخ وفطوم وزنوبة »ولازم يكون عندنا موبايل«، وكان لهم ما أرادوا، وصار الواحد منهم يبعث لي المسجات )الرسائل( وهو جالس في غرفة تبعد عني مترين: ممكن تودينا بيرجر كنج؟ وصار الموبايل يحتاج إلى سماعة، ثم تدهورت حالته الصحية وصار محتاجًا إلى كاميرا، ونغمات وصور يتم إنزالها من الإنترنت أو شراؤها من جهات معينة، وكل ذلك ترف لا طائل من ورائه، ولكن ماذا تقول في زمان اختفى فيه الخط الفاصل بين الترف والضرورة؟
كل ذلك أمره سهل، ففي الطريق إضافة جديدة إلى الموبايل تليق بعصر العولمة، ولقد حدثتكم من قبل عن أن شركة سيميدا الرومانية تطور برنامجًا للهاتف الجوال يزودك بأكاذيب تجعلك تفلت من المساءلة في العمل أو البيت، وأبشركم/ أنذركم اليوم بأن التطبيق الجديد وصل إلى الأسواق، وكما قلت في مقال لي من قبل هنا: يرن الهاتف وترى على الشاشة رقم مديرك، فتضغط على زر يصدر أصوات أبواق وهدير سيارات، فتقول له إن هناك زحمة مرورية بسبب مرور موكب رئيس جمهورية روريتانيا، أو تضغط على زر يصدر صوت آلة الحفر المستخدمة في عيادات الأسنان وتقول للمدير إنك تخضع لعملية »غشل عشب«، أي قتل عصب، وإذا كان المتصل زوجتك وأنت في مكان مريب تستطيع أن تضغط على زر يوحي بأنك في جو عمل: تلفونات ترن وأصوات طباعة على الكمبيوتر.. وهكذا فإن أداة اتصال ستصبح أداة انفصال… عن الواقع والالتزامات والحقيقة!
سؤال: »هل الكذب الإلكتروني حرام؟«
زاوية غائمة
جعفر عباس