رحل عن دنيانا بالأمس، الأستاذ غازي سليمان المحامي، غيّبه الموت، لكن ذكراه ستظل باقية، وخالدة بيننا تمشي في أفئدة معاصريه، وتسير في دروب التاريخ، وتقدم نموذجاً لرجل نبيل ونزيه وكريم وشجاع. وقد عرفته بكل صفاته تلك.
كان نبيلاً بمعنى الكلمة، لم يحرمني وكثيرين مثلي من المشاركة في اجتماعاته السياسية المفتوحة أو المغلقة داخل مكتبه في قلب الخرطوم، أو في منزله الكائن بنمرة اثنين، أو في مزرعته بضاحية سوبا جنوبي الخرطوم، قبل أن ينتقل للإقامة فيها نهائياً هو وأسرته الكريمة.
كان نزيهاً يحبه كل من عرفه، ويقصده كل من أراد الوصول إلى العدالة، رغم أن البعض يحسبه على اليسار، ولا أنسى مطلقاً أنه كان محامياً ومستشاراً قانونياً لإحدى الشركات الكبرى التي يجلس على قمتها صديق من كبار الإسلاميين بالسودان، والذي ما كان يخفي إعجابه بقدرات الراحل المقيم وفهمه العميق للقوانين، ومهنيته العالية التي تخرج به عن كل تصنيف سوى العمل.
في بيته وخلال انتمائه للحركة الشعبية لتحرير السودان، قويت علاقتي بعدد من قياداتها، وعلى رأسهم الأخ الأستاذ ياسر سعيد عرمان، وبعدد من قوى اليسار الحالي، وكان منزله مفتوحاً لكل أصحاب الفكر الثوري والتقدمي، إذ كان يحسب أنه منهم، لكنه لا يقدم ذلك على صفة الوطني التي ظل يحملها ويتصف بها منذ شبابه الغض، وحتى مواراته الثرى عصر أمس في مقابر البكري بأم درمان، ليدفن إلى جوار والدته الحاجة المرحومة «أم النصر» حسبما أوصى، فقد كان يكن لها معزة خاصة، ويبرها براً يعرفه الأقربون.. وكانت تلك وصيته، أن يدفن إلى جوارها.
استقبل غازي واحتضن قيادات حركات التحرر في أريتريا، وربطت بينه وبين الرئيس إسياسي أفورقي علاقة قوية وخاصة، إذ كان مناصراً للقضية الأريترية، وحمل السلاح وحارب إلى جانب الأريتريين في حربهم الطويلة لنيل الاستقلال من أثيوبيا. فيد كان شجاعاً يتبنى الموقف الذي يرى أنه الأصوب، حتى وإن خالف ذلك سياسات الدولة.
عانى الأستاذ غازي سليمان في أوائل سني نظام الإنقاذ، من الاعتقالات، لكن مواقفه لم تتغيّر، بل كان ينتظر على الدوام أن تتغير مواقف النظام، واقترب كثيراً من الحركة الشعبية خاصة إبان وجود مؤسسها الراحل الدكتور جون قرنق، لكنه لم يندم على مفارقتها عندما أحس بأن الحركة الشعبية بعد مصرع قائدها، لم تعد هي ذات الحركة التي انجذب إليها.
كان كريماً إلى درجة مدهشة، وكنت أقول لزملائي وأصدقائي والذين يعرفونه، إن الرجل الشجاع ليس بالضرورة أن يكون كريماً، لكن الكريم بالضرورة أن يكون شجاعاً، لأنه يقتطع من ماله ومال عياله لإكرام ضيفه، ولعله من أصعب ما يواجه الكثير من الناس، هو اقتطاع جزء أو كل من مال لأجل الآخرين.. لكن غازي كان كذلك، وجمع بين الكرم والشجاعة، ولم يبخل بوقت أو جهد أو مال في سبيل الآخرين، كنت كثيراً ما أقابله في الأشهر القليلة الماضية داخل أروقة وردهات المحاكم، أنا «متهم» كالعادة في قضايا النشر التي لا تنتهي، وهو محامٍ يدافع عن الغير، وكان ـ رحمه الله ـ كثيراً ما يرفع من روحي المعنوية، أمام مستشار صحيفتنا القانوني الأستاذ عادل خشم الموس المحامي، ويضحك وهو يجر بيمناه «حمالة بنطلونه» اليسرى، ويقول بالصوت العالي حتى يسمع الآخرين: «أيوة كده.. وخليك طوالي كده لأنو دي ضريبة النجاح».
رحم الله الرجل الشجاع الوطني المخلص، والبطل العظيم الأستاد غازي سليمان المحامي، الذي غادر منصة البطولة بالأمس لكن صورته ما زالت عليها.
بعد ومسافة – آخر لحظة
[EMAIL]annashir@akhirlahza.sd[/EMAIL]