تنتابني بين الحين والآخر نوبات متواترة من الضيق والكدر لأسباب متباينة بعضها معنوي والآخر مادي! تجدوني دون تعمد مني أصحو مبتئسة حزينة.. وأتحرك في جنبات المنزل صامتة مكفهرة.. أشعر بأن الحياة على رحابتها تضيق بوجودي.. ويطبق شعور مقيت بالملل على صدري.
في تلك الحالة.. يتجنبني أبنائي.. ويكتفي زوجي بمراقبتي في صمت.. ويبتعد أصدقائي عن محيطي.. وتظل أمي تدعو لي بالهداية وهي تهز رأسها.. وقد أوصلتهم تجاربهم السابقة لهذه الخيارات بعد أن جربوا ثوراتي غير المبررة ودموعي المتحججة وصراخي البغيض واستكانوا لما أحمله من صفات العصبية والمزاجية، مبررين ذلك لأنفسهم على أفضل الفروض بأنني كاتبة.. والكاتب دائماً قلق ومقلق ومختلف!!
وقد تستمر معي هذه الحالة لأيام وأنا في خمول تام يقعدني عن الحركة والكتابة، وأكتفي بملازمة فراشي، والعبث بهاتفي الجوال، وقد سيطرت على تماماً فكرة أنني أتعس خلق الله وأفشلهم، وأن الدنيا ما فتئت تولي عنى الأدبار وتتمنع عن تحقيق أحلامي!
وبمرور السنوات.. وتغير الأولويات وشكل الأفكار والطموحات.. بدأت النوبات أعلاه بالتباعد.. وبدأت أدرك القيمة المعنوية للاستغفار وتلاوة سورة البقرة والحوقلة والتسبيح.. ولكني أعترف بأنها لم تزل تماماً، وظلت تناوشني من حين لآخر.
وبدأت ألحظ أن السواد الأعظم من المجتمع مصاب بذات الداء العضال.. أحباط عام، تذمر، شكوى متلاحقة، وشعور جماعي بالأحباط والقهر والفشل.
ودائماً المبررات حاضرة ومقنعة.. فلس، خذلان، مرض، جراح في القلب، عطالة وغيرها من تلك الأسباب التي تتسبب فيها المشاكل الاقتصادية والسياسية والعاطفية !
والمتهم دائماً مدان، سواء أكان الحكومة أو الحظ التعيس أو الآخرين.. فلا أحد يدين نفسه بتهمة الاشتراك الجنائي في أوضاعة المزرية!
المهم.. ظللت على حالي ذلك طويلاً.. أعلن سخطي بشتى الوسائل.. ولدي إيمان مطلق بأنني أستحق حياة أفضل من هذي التي أحياها!!
ولكن.. قبل مدة.. وخلال واحدة من حلقات برنامجي الأسبوعي الراتب مساء كل إثنين على إذاعة هلا 96 والذي يحمل اسم (نقطة.. سطر قديم) ويأتي على الهواء مباشرة من العاشرة وحتى منتصف الليل تماماً، أتاني اتصال هاتفي من أحد المستمعين يدعى (هلال).. وأحسب أن الله قد اختار له هذا الاسم ليهل عليَّ وعلى رفاقه المستمعين بالخير العميم، ويعلمنا درساً بليغاً في الرضا والإيمان.
ورغم مروري اليومي على حالات كثيرة لذوي الاحتياجات الخاصة والظروف العصيبة – بحكم طبيعة عملي – إلا أن معظمها لم يكن يتجاوز التأثُّر العارض مهما كان صادقاً، والاجتهاد في مد يد العون هنا وهناك، لأقنع نفسي بأنني أؤدي ضريبتي نحو الإنسانية، كما يجب !
ولكن (هلال) كان مختلفاً واستثنائياً.. متحدثاً لبقاً من طراز فريد.. ومثقفاً جداً.. وصاحب صوت رخيم جميل.. شارك بفاعلية في إثراء موضوع الحلقة ثم باغتنا في نهاية المشاركة بأنه شاب في مقتبل العمر يبلغ 26 عاماً.. يضج بالحماس والحيوية فقد بصره ووالديه على التوالي منذ ثلاث سنوات، وفي فترات متقاربة جداً ليكون العام 2013 بالنسبة له هو عام الرمادة لا محالة!! طالب عبقري نجيب.. يدرس المختبرات الطبية.. ويحرز المركز الأول على دفعته كل عام.. يجد نفسه فجأة محروماً من نعمة الإبصار التي يقوم عليها تخصصه، ويفقد أكثر اثنين في الدنيا يمكن أن يقدما له الدعم والحنو اللازمين!! وأحسب أن الإنسان الذي يصاب بالعمى بعد سنوات من الإبصار يكون أكثر هلعاً وجزعاً وأكبر مصيبة من الذي ولد فاقداً لبصرة.. إذ أن اكتشاف جماليات الحياة والاعتياد عليها ثم الحرمان منها بغتة أشد وقعاً على النفس من دونه!
ولكن (هلال) يصبر ويحتسب ويتجاوز ثم يمضي في تطوير ذاته ويشحن روحه بالإيجابية ويسمو بها نحو النبل والتصالح والرضا!
ثم يأتي ليحدثني عبر الهاتف ببلاغة مبهرة حديث العارف المستنير المتدين، فيشعرني بضآلة ما أنا عليه من إدعاءات.. وما أحيا فيه من ضلال وظلم كبير لنفسي وللآخرين من حولي!
إن هلال وغيره كثيرين أدركوا تماماً بأن الدنيا لا تساوي (جناح بعوضة)! فهل سبق لأحدكم أن رأى ذلك الجناح عياناً؟!!
ولماذا نعمد دائماً لمقارنة أنفسنا بمن هم أفضل منا وأرفع مكانة ونتطلع لما بين أيديهم؟ لماذا لا نخفض نظرنا نحو من هم أقل وأضعف وأحوج، ونحمد الله على ما نحن عليه من تمام العافية واليسر!!
قد تكون الفكرة في مجملها تقليدية ومتداولة.. ولكن أن يسكن أحدنا فعلياً شعور غامر بالرضا الدائم وإيمان مطلق بأن إرادة الله وحدها هي الماضية فينا إلى يوم الدين، فذلك وربي أمر عسير يظل شيطان الهوى يحرضنا عليه، ويصور لنا مفاتن الدنيا الغرورة حتى ننغمس فيها كلياً، متجاهلين أن الموت يتربص بنا في نهم !
فالحمد لله على النعم الكثير التي تتزاحم عند أبوابنا كل صباح.. ونسأله وحده جل وعلا أن ينزع من نفوسنا الكبر والغرور والسخط.. ويبدلنا عنهم رضا وسكينة.. ويكتب لنا الخير كيفما أراد.
تلويح:
الرضا بالمقسوم عبادة.. وسعادة ما بعدها سعادة!!
داليا الياس – اندياح
صحيفة اليوم التالي