تشرفت البلاد الأسبوع الماضي بزيارة تاريخية وذات دلالات عميقة ، قاد ربانها معالي الشيخ العالم صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية ، على رأس وفد عالي المستوى ، حطَّت بهم الطائرة الخاصة أرض مطار الخرطوم ، واستقبلهم النيل والنخيل والأرض والتأريخ والحضارة .
الزيارة بعيون الخبراء والدبلوماسيين تعتبر مؤشراً لتنامي مستوى العلاقات بين الخرطوم والرياض ، وعودة العلاقات إلى طبيعتها بين شعبين يجمع بينهم الدين والعقيدة واللغة والهدف المشترك في نصر الإسلام والمسلمين ، بعد أن عاث بهذه العلاقة أصحاب العمائم السوداء وآخرون ردحاً من الزمان ، وبفضل الله ثم العلماء والدعاة والمصلحين الحادبين على صيانة الدين وصفاء عقيدته وبقرار شجاع وموفق من رئيس الجمهورية المشير عمر البشير تمزقت هذه العمائم وقُذف بها إلى مزبلة التأريخ ، وحلَّت محلها العمائم البيضاء الناصعة التي تحمي العقيدة وتدعو لوحدة الكلمة والصف جهاراً نهاراً ، وتحمل في يدها الكتاب والسنة الصحيحة .
محاربة الإرهاب والتطرف ومحاصرة المد الرافضي وترسيخ منهج أهل السنة والجماعة وتمتين العلاقة بين السودان والمملكة سياسياً وإقتصادياً ودعوياً وثقافياً ، وتوقيع بروتوكولات بين المؤسسات الدعوية والجامعات السودانية ونظيراتها بالمملكة ، والتعرف على العمل الإسلامي والجمعيات والمؤسسات العاملة في حقله ، كل هذه المحاور وغيرها كانت محور زيارة معالي وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد ، والزيارة تكتسب أهمية قصوى لرمزية الزائر من جهة ولموقعه ومنصبه من جهة أخرى ، فمعالي الشيخ الوزير عالمٌ وفقيه أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته العديدة ، وسليل أسرة علم ؛ ويكفي أنه حفيد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وجده مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمهم الله تعالى ، ومنصبه يتعلق بـ(الشؤون الإسلامية) و(الدعوة) و(الإرشاد) وهذا الثلاثي يمثل أهم ما يحتاجه العالم اليوم ، الحياة في ظل الإسلام وتعاليمه ، كما يمثل أيضاً رسالة المملكة للعالم ، خدمة الإسلام والمسلمين .
لقاء معالي الوزير برئيس الجمهورية وإطلاعه على نتائج زيارته للبلاد ، واللقاءات التي أجراها مع العلماء والدعاة وزياراته للمؤسسات العلمية والشرعية في السودان ، تؤكد عمق العلاقات السودانية السعودية. وتوضح بجلاء أن المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز تقدر المواقف الشجاعة للسودان في دعمه للتحالف العربي في إطار عاصفة الحزم ، وتؤكد أن السودان يلعب دوراً مؤثراً في هذا التحالف . وتشير إلى المستوى المتقدم الذي وصلت إليه العلاقات بين الخرطوم والرياض في كافة مجالاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية ، وتعضد تقدير بلاده لمشاركة السودان في التحالف ضد الإرهاب ، والذي يهدف إلى مواجهة المنظمات الإرهابية التي تسعى لتفتيت العالم الإسلامي .
وفي إطار الزيارة التقى معالي الوزير بعدد من المؤسسات الإسلامية ، حيث زار وزارة الإرشاد والأوقاف ، وأجرى خلال الاجتماع التباحث حول القضايا والأمور ذات الاهتمام المشترك وفى مقدمتها تفعيل الشراكات الاستراتيجية في خدمة العمل الإسلامي وفق منهج يقوم على الوسطية والاعتدال ومحاربة الغلو والتطرف والإرهاب، بالإضافة إلى مناقشة تفعيل عدد من الاتفاقيات ومذكرات التعاون المشترك بين الوزارتين ، كما التقى بمدراء الجامعات الإسلامية في أفريقيا والسودان ، وتكفل بتشييد مكتبة مركزية بجامعة أفريقيا ودعمها بالكتب والمراجع ، مع كفالة آلاف الطلاب سنوياً ، كذلك التقى برئيس المجلس الأعلى للدعوة والإرشاد بولاية الخرطوم واستمع لشرح مفصل عن العمل الدعوي بولاية الخرطوم ، كما زار المركز العام لجماعة أنصار السنة المحمدية بالسودان بضاحية السجانة وألقى محاضرة في اللقاء الدعوي الكبير على شرف زيارته وتبنى إعادة تشييد مسجد المركز العام .
غير أن زيارته للمركز العام لجماعة أنصار السنة المحمدية وإلقاءه محاضرته عن (تسبيح الله وحمده) ولقاءه بقيادات الجماعة بمكتب الرئيس العام ، كان لها طعم ولون خاص ، حيث تزينت قلعة التوحيد مساء الإثنين الخامس من شهر شعبان لاستقبال جموع العلماء والدعاة والموحدين من الرجال والنساء والوزراء والدستوريين والتنفيذيين والأمين العام للحركة الإسلامية السودانية ، الساحة المعدة للقاء امتلأت آلاف الكراسي عن آخرها والمئات واقفون ، والمسجد الذي يسع لأكثر من ألف مصلي امتلأ وساحات المسجد الشمالية والشرقية وخارج المسجد ترى جلوس الجموع يتابعون المحاضرة عبر الشاشات التي وفرتها اللجنة الإعلامية ، والملايين تابعوا عبر النقل المباشر على أثير إذاعة البصيرة بكل ولايات السودان وعاليماً عبر تطبيق الإذاعة على الإنترنت والهواتف الذكية ، كذلك عبر قناة الاستجابة الفضائية والقنوات الأخرى ، كان لقاءاً دعوياً نوعياً في محاضره وجمهوره وضيوفه الذين شكلوا لوحة جمعت كل دعاة أهل السنة والجماعة بالسودان .
والمتفحص للتأريخ يجد أن زيارات القيادات السعودية للمركز العام لأنصار السنة قديمة ومتجذرة ، منذ عهد السفير عبد الرحمن العبيكان رحمه الله ، ويقول فضيلة الشيخ الدكتور إسماعيل عثمان محمد الماحي الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية بالسودان عن هذه العلاقة : ” إن زيارة معالي الوزير لمركز الجماعة تأتي في إطار المواصلة والتتابع للزيارات التي ظل المسؤولون والعلماء من المملكة العربية السعودية يقومون بها لمركز أنصار السنة المحمدية ، مشيراً إلى تشريف المركز العام بزيارة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله في العام 1967م حيث افتتح مسجد المركز العام الذي شيَّده على نفقته مع مسجد الملك فيصل بالعرضة وهو مسجد الشيخ محمد هاشم الهدية رحمه الله . وقال الماحي إن تتابع زيارات السفراء والعلماء وأئمة الحرمين الشريفين ومعالي الوزير لمركز الجماعة لها خصوصيتها في هذا الوقت ، لافتاً إلى أن الجماعة تنهج نهج الاعتدال والحرص على علاقة السودان والمملكة ، وبهذا التوافق والتعاضد بين قيادة البلدين ، فخامة المشير عمر حسن أحمد البشير رئيس الجمهورية وأخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود حفظهما الله ما يمثل القدوة والمثال للأمة المسلمة والعربية ” .
مخرجات الزيارة أكبر من أن تحصى ، في المجال الإقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والتعليمي ، ولا شك أن الرابح الأكبر هو (المجال الدعوي) ، لموقع الوزارة وتخصصها ، ولاشك أن السودان في حاجة لإعلاء الشأن الدعوي موقعه ، سيما وأن غياب التعليم وضعف الثقافة الدعوية يعتبر السبب الرئيس في التدهور المريع الذي يشهده المجتمع سياسياً وأمنياً وثقافياً واجتماعياً ودينياً ، فالحروب والصراع لا تنشأ في المجتمعات المتدينة والواعية ، والقتل لا يستسهل في ظل شيوع المعرفة والوعي والثقافة الإسلامية البسيطة ، والنزاع حول السلطة والمعارضة وارتفاع أصوات القبيلة والعرق والجهة لا ينادى به من استوعب أبجديات رسالة الإسلام وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وانتشار مظاهر الشرك والبدع وتقديس البشر والحجر والتكفير والتفجير والإلحاد والتشيع وبعض ممارسات التصوف ؛ كل هذه الأخطار تتمدد مع غياب العلم والدين الصحيح والقدوات الحقيقية والتجرد ، وتنكمش مع بسط العلم والوسطية والاعتدال المستند على مصادر التلقي المعروفة من القرآن والسنة الصحيحة .
على صعيد أهل السنة والجماعة بالسودان فإن زيارة معالي الوزير أكَّدت أنهم على صف واحد ومنهج واحد حتى وإن اختلفت الواجهات والمسميات ، وما اللوحة الجميلة التي جمعتهم في ساحة المركز العام لأنصار السنة إلا خير شاهد ودليل على أن دعوة التوحيد ما زالت بخير رغم العواصف وتلاطم الأمواج وحسد الحاسدين ، كما أثبتت أن ريادة وقيادة العمل السلفي يتمحور في المركز العام للجماعة ، وأكدت بعد نظر قيادتهم في التواصل مع الجميع وتماسك قيادته العلمية والإدارية .
بعض المراقبين اعتبر زيارة معالي الوزير تمهيداً لزيارة الملك سلمان للبلاد ، وهذا ما ظل ينتظره الشعب السوداني حيناً من الزمن ، ونتمنى أن يتحقق في القريب العاجل بإذن الله .
الخرطوم : بقلم / عمر عبد السيد