أرغب بشدة في قول الحقيقة، صدقوني لأول مرة أرغب في ذلك، رغم أنها مؤلمة، وكتمانها متعب، لا يمكنكم أن تتخيلوا مدى الرعب الذي حل بي بعيد أن سمعت أنني سوف أغادر الوزارة، وأعود للجلوس على كرسي القماش عند حديقة المنزل، وأشرب القهوة مع زوجتي التي لن تطيقني بعدها، ولن تلتزم بزمن الدواء، أنا أيضا لا أطيق التفكير في ذلك، لأني أعرف تماماً مرارة الفطام، الذي جربته صغيراً ولا أريد أن أجربه كبيرا، وكيف سينفض الناس من حولي كالأجرب، وأعرف غباء أن تكون انسانا عاديا، فمن يبيعني معلومة أنني سابقى؟
كما أنني لا أستطيع أن أتخيل نفسي بلا وزارة، أو بلا معنى، إنه شعور كريه ولا يوصف، كما لو أنني فرطت في شرفي السياسي، وخرجت للناس عارياً، هذا لو استطت أن أخرج وأحتمل كمية (الشماتة) التي تنتظرني، وتحديداً من الذين تجاهلتهم وأغلقت دونهم أبوابي .!!
فكرت في تنظيم مؤتمر صحفي لأكشف فيه بعض أسرار النجاح، وانتظم في جملة حوارات صحفية، وأدير في الخفاء حملة لتكريمي، حتى وإن اضطررت أنفق عليها ملايين الجنيهات، ما المشكلة فهى أموال الحكومة؟ ومهما دفعت فأنا أشتري مصيري، ولدى ما يمكن أن أقوله، كما يمكنني أن أتملق الكبار، وأميط اللثام عن مشروعات واتفاقيات كبرى قمنا بتوقيعها، وسوف نشرع في تنفيذها قريباً، إنها حيلة سياسية بحيث لا تنهي كل المهام الموكلة إليك، وتحتفظ بجلها، فتكون جديراً بالبقاء ! وفي الوقت نفسه تحتفظ بصداقات في الوسط الصحفي لتعينك في مثل هذه الاوقات الحرجة، أي اشادة هنا يمكن أن تفيد.
كان ذلك الإفتراض القديم طوقتنا به التجربة، وهو قبل أن تغادر أي منصب عليك أن تحتفظ ببعض الأسرار ومفاتيح العمل وتستأثر بكل شيء، وتطيح أيما شخص ناجح يعمل بجانبك، حتى لا يرثك، أنت الوحيد العالم ببواطن الأمور، تسافر لوحدك وتوقع الصفقات لوحدك وتحتكر التجربة، وتتحدث للإعلام بإستفاضة فيشعر مرؤسوك أنه لا أحد غيرك يجيد هذه الأدوار، كنت مدرك تماما أنني لو إستسلمت لرغبات المنادين بتواصل الأجيال سوف أغادر غير مأسوفاً عليه، حاولت أن أرتب محاور المؤتمر الصحفي، وقد شاءت الأقدار أن ألتقي في تلك الأمسية بنائبي السابق والمتأمر الذي سرت شائعة أنه سيحل مكاني، الحمد لله أنني تخلصت منه قبل أن يتخلص مني، ذلك الحقير .!!
المهم أن الصحفيين لم يخيبوا ظني ، فقد احتشدوا بكثافة مريبة، أعرفهم جيدا فهم مفتونون بالأسرار والفضائح، تحديداً إذا كنا نحنُ أبطالها ، على أن اتظاهر بصداقتهم ومحبتهم مع أنني في الحقيقة أكرههم وأمقتهم بشدة، أشعر بخطورتهم، إنهم العدو الأول لأي سياسي يتسنم منصب حكومي، بحيث يستمعون إليك بتهذيب وثقة، يثرثون معاك بلطف لتبوح لهم ببعض أسرارك، ومتى مرت من تحت لسانك عبارة، أو تورطت في اعتراف وألقيت اللوم على أخرين بالفشل، لن يرحموك، ستجد نفسك مدانا بالخط الأحمر، وساعتها لا تعرف هل تعتذر أم تنكر أقوالك، أفضل طريقة أن تنكر، وتتهمهم بالتحريف والبحث عن الإثار وتجعل منهم حيطة قصيرة، ليس مهماً إذ ما كانوا يحتفظون لك بتسجيل، فالحكومة يهمها نفيك ورمي الصحافة بالباطل لتضيق عليها الخناق .
هؤلاء المجانين يصنعون شهرتهم على حسابنا، نحنُ الذي أضعنا أعمارنا في خدمة البلاد والعباد، نشقى ونتحمل الأمراض اللعينة .. جلسوا والفضول يرسم في عيونهم (مين شيتات) حائرة ، هل سيحدثنا عن ملفات مشبوهة، عن تردي الخدمة، عن شركات المسؤولين التي تعمل في الخفاء وتحت لافتات وطنية؟ عن تدمير مشروعات كبرى، عن شهادات الدكتوراة المزورة التي اشتراها بعض المتنفذين والأثرياء، كثيرة هى الخيبات، لكنني سوف أخيب أظنهم وأمتدح قادتي وأقول ذلك الكلام الذي تعرفونه، إنها أمانة، ويوم القيامة خزي وندامة، والمناصب تكليف لا تشريف، وأنا جندي في خدمة الوطن، وبما أنني كنت أعرف أيضا الفرق بين أن تكون جديرا بالموقع وأن تكون قريبا منه، وأعرف أن الكيكة صغيرة والزحام عليها فظيع، كنت أحتفظ ببعض الكروت، وأخرها بالطبع إن لم تشفع الخطة أ و(شلتي) التي خدمتها كثيراً، سوف ألجأ (للقبيلة) .. خط الدفاع الأخير والتي أدخرها لمثل هذا اليوم .. القبيلة ستعيدني رغم أنفهم.
بقلم
عزمي عبد الرازق