“ديم النور”، حيّ سوداني أشبه بقارة أفريقية مصغّرة تضمّ سودانيين وإثيوبيين وإريتريين وصوماليين وأقباط مصريين وليبيّين وآخرين من جنوب السودان، فضلاً عن مجموعات من قبائل عربية مختلفة. ولعلّ السمة الأبرز لهذا الحي هي تعايش سكّانه السلمي، مع محافظة كلّ مكوّن على عاداته وتقاليده ودينه وثقافته. ففي “ديم النور” يتعايش المسيحي مع المسلم ويتشاركان الأفراح والأتراح، كذلك لا تمثّل العقيدة ولا الجنس ولا اللون عائقاً أمام تواصل مكوّناته المختلفة. بذلك نشهد مثالاً في التآخي قلّما نجده في مدن سودانية أخرى بتلك الحميمية.
في عام 1887، تأسّس حيّ “ديم النور” في ولاية القضارف، شرقيّ السودان، على يد القائد السوداني في جيوش الثورة المهدية، النور عنقرة. وقد نسب الحيّ إليه، إذ استقرّ مع جيوشه في المنطقة التي كانت بمثابة ثكنات عسكرية لتلك الجيوش التي دحرت الاستعمار التركي عن البلاد في ذلك الحين. ويقال إنّ كثيرين من قوات النور عنقرة استقرّوا في الحيّ، حيث أسسوا حياتهم. يُذكر أنّ قواته كانت مؤلّفة من سودانيين من مختلف الولايات فضلاً عن إرتريين وإثيوبيين. بعد ذلك، راح الحيّ يجتذب كثيرين من أبناء شعوب القرن الأفريقي الذين فرّوا من النزاع في بلدانهم.
من يدخل إلى الحيّ للمرّة الأولى يلحظ القدر الكبير من الانسجام والودّ بين سكانه بمختلف إثنياتهم ولهجاتهم التي أصروا على الاحتفاظ بها واستخدامها من حين إلى آخر. فقد ساهم تعايشهم الطويل في اكتسابهم لهجات بعضهم بعضاً، إذ تجد السوداني يجيد لهجة الإريتري أو الإثيوبي المحلية والعكس صحيح. وهكذا تجدهم يتبادلون السلام ويتجاذبون أطراف الحديث بلهجات عدّة.
محمد عثمان (60 عاماً)، سوداني من أهالي المنطقة، يخبر أنّ “الحيّ في بدايته، وفق ما حكاه لنا الأجداد، كان عبارة عن غابة تضمّ أنواعاً مختلفة من الأشجار. واليوم، سكان المنطقة على الرغم من اختلاف بلدانهم وقبائلهم يتعايشون في حبّ بعيداً عن العنصرية والقبلية”. يضيف: “هنا، كلنا أسرة واحدة. لكم دينكم ولي ديني”.
من جهته، يقول جاره جمال حسن (40 عاماً)، إنّه لا يشعر إطلاقاً وهو في الحيّ بأنّه في السودان، بل في بقعة أفريقية جامعة، “ففي هذه المنطقة تتعايش المكوّنات في تعاضد وترابط”. يضيف: “نحن جميعاً نتحدث بلغة القبائل والأجناس المختلفة، إذ إنّنا مجموعون منذ مدة طويلة وقد نجحنا في الانسجام بعضنا مع بعض”. ويؤكّد حسن على أنّ “ما هو موجود هنا يفوق حدّ التعايش السلمي إلى أبعاد يصعب اختصارها بمسمّى معيّن”.
أمّا شوقي ورقو (45 عاماً)، فيشير إلى أنّ “عائلتي انتقلت من إثيوبيا في عام 1923 بهدف الاستقرار في حيّ ديم النور. فجدّي كان يعمل في التجارة بين السودان وإثيوبيا واستقرّ به المقام هنا”. ويقول إنّ “ديم النور كان يضمّ إثيوبيين كانوا يخدمون في الجيش الإنكليزي. وقد فتح القادة منهم بيوتهم للإثيوبيين الذين وفدوا في وقت لاحق واستقروا في المكان”. يضيف: “هكذا أسّس أجدادنا لحياتهم في ديم النور وانصهروا في المجتمع السوداني واستحصلوا على الجنسية السودانية. وقد أنشأ بعضهم سلاح الموسيقى في المنطقة، فيما انخرط آخرون في الجيش السوداني وفي قطاعات مختلفة، من صحية وتعليمة وغيرها”. ويتابع ورقو: “لم أشعر في يوم باختلاف بيني وبين جاري المسلم على الرغم من أنّني مسيحي. كذلك لم نشعر فيه بأننا أشخاص غير مرغوب فيهم، ولم تُثر بين سكان الحيّ قضايا الدين ولا العرق ولا اللون”. ويؤكّد: “نحن بمثابة أمم متحدة مصغرة. قد تجد أبعد الناس أقربهم إليك”.
إلى هؤلاء، يؤكد شوروا (50 عاماً)، وهو إريتري، على التعايش ويقول: “دائماً ما يجمعنا الودّ، لا سيّما في بعض المناسبات. ففي رمضان على سبيل المثال، وعلى الرغم من أنّني مسيحي، إلا أنّني أعدّ صينية الإفطار وأشارك جيراني المسلمين بتناول الوجبة. كذلك يفعل سكان الحيّ جميعاً”. يضيف: “لم نشعر بأي اختلاف على الإطلاق. قد يكون جارك حبشياً أو صومالياً أو قبطياً، لكنّنا لم نشعر في أيّ يوم من الأيام بنظرة عنصرية أو دونية تجاه عقيدة ما”. ويلفت شوروا إلى أنّه “في حالات الوفاة على سبيل المثال، الجميع يتساند على الرغم من اختلاف الطقوس”.
انصهار مع بعض الخصوصية
مع مرور السنين، يمكن القول إنّ سكان “ديم النور” انصهروا لدرجة أنّه قد يصعب على أحدهم التمييز بين الإثيوبي والصومالي والإريتري للوهلة الأولى. جميعهم يتحدّثون اللهجة السودانية بطلاقة ويرتدون الزيّ القومي السوداني وإن كانوا ما زالوا يحتفظون كلّ بثقافته وعاداته التي تتجلّى في المناسبات المختلفة.
الخرطوم ــ العربي الجديد