فلتذهب مصر بلقب أم الدنيا وهبنا نجحنا في فرض لقبنا الجديد: السودان أصل الحضارة، فكان ماذا؟

ما فعله “العيان” بالحضارة
بينما كنت أتسكع في ردهات معرض تونس الدولي للكتاب قبل حوالي شهر من الان، لفتتني لوحة معلقة على الجناح الايراني المشارك بالمعرض كتب عليها بالخط العريض ” ايران مهد الحضارة “.
ضحكت وتذكرت اصرار المصريين على ان مصر أم الدنيا. لم تكن حالة الهياج السوداني المطالبة بأن نكون أصل الحضارة قد بدأت بعد.

تقدير مسألة من أين بدأت الحضارة الانسانية هذا أمر له أهله، وبينهم اختلافاتهم. وهو لا يعنيني هنا إلا بمقدار التعليق على الصورة الذهنية للشعوب عن أنفسها.
فكما كنا نقول في السودان قديما ” القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ” ونعلق عبارتنا هذه نيشاناً على صدر ثقافتنا، فوجئنا لما خرجنا للعالم – او فوجئ بعضنا – انه سمع العبارة تقول القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ. وتنسب هذه الجملة لطه حسين بلا توثيق.
لسنا وحدنا إذن الذين ننسب هذا الشرف – غير المفهوم، الشرف الاستهلاكي – لنا.
وكذلك مسألة الحضارة هذه.
فعلى العرش تتبرع مصر بصوتها العالي تقول انها ام الدنيا. حتى سارت بالكلمة الركبان. وصادفت – كما حكيت لك – ايران تقول انها ” مهد الحضارة”. ثم ثرنا في السودان غضباً لكرامة أهرامنا الكوشية فانطلق شعار ” السودان أصل الحضارة”.
لذلك يجب أن نعرف أيضاً أن سوريا تسمي نفسها ” مهد الحضارات “. أما العراق فيلقب عند بنيه ب ” أبو الحضارات “. أما اليمن فهي ” مهد الحضارات القديمة ومنبع الهجرات البشرية”.

بشكل ما يجعلني ذلك اتذكر دكتاتور كوريا الشمالية المجنون. الذي قيل ان تلفزيونه الرسمي أذاع بشرى للمواطنين ان بلادهم اطلقت اول ماكوك فضائي على متنه رائد فضاء في الطريق إلى الشمس. وقف المواطنون المحبوسون داخل كوريا الشمالية والمقطوعون عن العالم يهللون لتفوق بلادهم. وكان أفدح من ذلك ما قيل انه اثناء منافسات كأس العالم 2014 كان التلفزيون الرسمي يذيع نتائج تفوق فريق كوريا الشمالية على كل منتخبات العالم المشاركة. وحتى انا من يجهل كرة القدم كنت اعرف ان كوريا الشمالية لم تشارك في كأس العالم. لكن المواطنين بالداخل كانو سعداء لأنهم يفوزون.
تبدو صورتنا عن دولنا وأنفسنا مشابهة لذلك.

كنت كتبت من قبل عن معلومة ” أول تلفزيون عربي”، التي نظن ف السودان دوما ان اول تلفزيون عربي هو المصري ( وهذا ظن مصري ايضا ) وبعده مباشرة التلفزيون السوداني. فنحن ثاني تلفزيون على مستوى الوطن العربي.
ثم فوجئت وانا أسمع الصحفي والمثقف اللبناني الشهير عبده وازن يقول مرة ان تلفزيون لبنان هو اول تلفزيون عربي!
من قوة ثقتي في معلومتي التي تربيت عليها اتهمت عبدة وازن بالخطأ او محاولة الفخر الوطني الكذوب. ثم رجعت أبحث في الانترنت. فوجت ان تلفزيون اللبناني حصل على الترخيص عام 1957 وبدأ البث في 1959. بينما التلفزيون المصري بدأ البث في 1960. لم يكن عبدة وازن مخطئاً. إنما كل ما كنت أفخر به وأقول نحن ثاني تلفزيون في الوطن العربي، تأكل. أصبحنا ثالث تلفزيون في الوطن العربي. ثم بحثت اكثر فاكتشفت ان التلفزيون العراقي بدأ في عام 1957! لقد تراجعنا لنصبح رابع تلفزيون عربي.
ثم كانت المفاجأة قبل عام، في المملكة العربية السعودية حين تعرفت على ” تلفزيون أرامكو ” الذي كان يبث من الظهران بالمنطقة الشرقية ويتلقاه الاهالي حتى في بعض دول الخليج القريبة. هذا التلفزيون وإن لم يكن حكومياً لكنه كان موجهاً للكافة، بدأ ارساله في سبتمبر 1957.
يمكنك البحث في جوجل عن “تلفزيون أرامكو ” وستجد فيدوهات قليلة لكنها جميلة جدا لوصف الحياة القديمة في الخليج.
الشاهد من كل هذا، اننا نفعل ما هجاه الوزير ابن عمار الاندلسي لما قال:

مما يزهدني في أرض أندلـس/ أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها/ كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

فنحن دول حالنا يغني عن سؤالنا. لكننا نتقاتل على من أبو الحضارة ومن أمها ومن مهدها ومن منبعها ومن أرضعها ومن فطمها ومن دخل بها؟

ما هي مساهمتنا في الحضارة الانسانية الحالية؟ هل لدينا شيء غير تكرار ان الحضارة الغربية قامت على انقاض الحضارة الاندلسية وسرقتها كلها؟ متناسين ان الحضارة العربية في الاندلس قامت ايضا على انقاض وترجمة الحضارة اليونانية.
بعضهم يظن ان العرب لو اقاموا في الاندلس اكثر كان احدهم سيخترع الهاتف بدل جراهام بل. او ربما أصبحت احدى بنات الاندلس هي مدام كوري. هذا كله في سياق البكاء على الفردوس المفقود كما سمى محمد احمد محجوب وزير الخارجية السوداني مرثيته للاندلس. وهو نفس اسم ملحمة ملتون الشهيرة المكتوبة في القرن السابع عشر الميلادي.

فلتذهب مصر بلقب أم الدنيا. مبارك عليها.
وهبنا نجحنا في فرض لقبنا الجديد: السودان أصل الحضارة.
فكان ماذا؟ ما هو الاسهام الانساني الذي نقدمه اليوم او ننوي تقديمه للبشرية. سواء مصر او السودان او العراق او اليمن او اي دولة من دول المهد والاصل والساس والراس.

اننا مهتمون جداً بأن نتلقب بالمعتضد والمعتمد والمعتصم والمنتصر، بلا أي مملكة.
لهذا ينتفخ هرنا ليؤكد دائما ان العالم يتأمر عليه. والعالم كله شرقه وغربه ضده.
في مصر يتكلمون عن المؤامرة الأمريكية الاسرائيلية التركية الايرانية القطرية على مصر التي بدأت بثورة تونس ثم طوقت مصر بالفوضى والاسلاميين في سوريا وليبيا والسودان.
وفي السودان – بعد العودة من حضن ملالي قم – يتكلمون عن المؤامرة الامريكية الايرانية المصرية في المنطقة، والتي لا قبل لأحد بمواجهتها إلا السودان. لأن هذا دوره التاريخي في الدفاع عن الدين وعن أمن المملكة العربية السعودية!
وفي سوريا، يتكلمون طبعا عن المؤامرة الامريكية الاسرائيلية السعودية التي يتصدى لها النظام السوري مع حليفه الايراني وحليفه الروسي.
في اليمن أيضاً يتكلمون عن المؤامرة. حتى في قطر، نشرت صحيفة الراية القطرية موضوعاً بتاريخ 8 مارس 2014 عن ” خيوط المؤامرة ضد قطر تتكشف”. وهي مؤامرة يقودها الاعلام المصري ويوقع فيها السعودية والامارات والكويت.
هكذا ليس لدينا دولة لا تؤمن أن المؤامرات تتربص بها عند كل زاوية.

هل تعلم ان أنصار الرئيس المصري السيسي يلقبونه بزعيم العرب؟ وأن أنصار الرئيس السوري بشار يطلقون عليه أسد العرب. أما الرئيس السوداني عمر البشير فأنصاره قد أسبغوا عليه لقب أسد العرب وافريقيا. وطبعا خلا الجو بعد رحيل ملك ملوك افريقيا الكوميديان السفاح القائد معمر القذافي.

خلاصة القول .. ان اقوى دولة في العالم اليوم هي من احدث الدول وجودا. قبل 500 عام لم يكن هناك هؤلاء القوم او اجدادهم في امريكا. لقد أتوا فعليا منبتين بلا حضارة. وبدأوا من الصفر. بينما قررت دول ذات حضارات وتاريخ غني مثل النمسا ان تتمتع بمعاشها. فتجلس على نهر الدانوب، تبلل قدميها، وتقدم لمواطنيها خدمات جيدة وفرص عمل وحياة رغدة. دون أن تكون مهداً للحضارات، أو يحكمها أسد أوروبا، أو هي صاحبة أقدم ارسال تلفزيوني في الاتحاد الاوربي.

صدقوني الحياة ممكنة بدون هذه الالقاب. والنجاح والمستقبل لهما طريق لا يمر بالضرورة على عراقة الماضي وعنفوان المجد التليد ومعارج الفخر.

الكاتب السوداني
حمور زيادة

Exit mobile version