(لما بلغ الترف بأهل العراق درجة أن يرموا بما يتبقى من الوجبة ، في سلة المهملات ، حتى اندثر عندهم تعبير (اﻷكل البايت) ابتلاهم الله بالحصار عشر سنين حتى بلغ بهم ضيق الحال أن يأكلوا الخبز اليابس .. ومات منهم مليونا طفل جراء الحرب والفقر والمرض.
ولما رأيت في دمشق امرأة فقيرة سقط منها رغيف خبز ولم تنحن لتلتقطه وتركته على اﻷرض ومضت .. ورأيت آخر يبعد ما سقط منه على الأرض بطرف قدمه ووصل هدر الموارد والنعم في بلدي مستويات مخيفة،أيقنت أننا مقبلون على أيام سوداء).
تلك كانت كلمات الكاتب السوري إبراهيم كوكي وهو يتمزق ألماً وحسرة مما ألمّ ببلاده وبالعراق وسأواصل سرد بقية كلماته الموجعات، وأورد كذلك قصة أخرى من ألمانيا في خاتمة المقال. لكني سأربط الآن بين قصة ذلك الكاتب السوري وبين قصة قرآنية شبيهة عن (سبأ) التي كفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف فقد قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (*) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (*) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) .
وهكذا هي سنن الله الماضية التي تسري على جميع البشر مسلمهم وكافرهم.
مطلوب من المسلمين خاصة – ولا أنسى نفسي- أن يشكروا لا أن يكفروا ذلك اني لا اجد فرقا البتة بين ما حدث لسبأ وما حدث ويحدث في بلاد أخرى عبر التاريخ اقترفت ذات الجرم .. (كفر النعمة).
ما تحدث عنه الكاتب السوري عكس جانباً من جوانب كفران النعمة لكن لا أشك البتة أن هناك جرائم عقدية وسلوكية أخرى أغضبت الله تعالى فأنزل العقاب على سبأ كما أنزله على سوريا والعراق وعلى غيرهما عبر التاريخ.
يحضرني في هذا الجانب ما حدث لعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وهم يرتكبون من المعاصي والمفاسد ما تسبب في الإغراق والزلازل والعواصف والصيحات التي نزلت على أولئك العصاة المتمردين على سلطان الله تعالى.
نرجع لإهدار الموارد لنستكمل مقال الكاتب السوري فقد قال:
(رحم الله والدي العالم الجليل ، فقد كان يأكل طعام اﻷمس (البائت) قبل طعام اليوم (الطازج) ..
وكان يبلل الخبز اليابس بالماء ويأكله وﻻ يرميه .. وكان أول من يشبع وآخر من يقوم عن المائدة ، فقد كان يلملم الفتات من أرز وخبز وغير ذلك وﻻ يسمح برميه كما يقوم بتنظيف المائدة وإذا وجد في المطبخ صحناً فيه بقايا طعام لأحد اﻷطفال ، لا يجد حرجاً في أكله وكان يغضب أشد الغضب إن رمي شيء من الطعام حتى وإن فسد وتغيرت رائحته أو طعمه وكان يحافظ على النعمة بقليلها وكثيرها ويحرص عليها فحفظته في حياته ، توفي رحمه الله عن 72 سنة ولم يكن يشكو من أي مرض ..ﻻ ضغط ، وﻻ سكري ، ولا شرايين ، وﻻ روماتيزم ، وﻻ قلب ، وﻻ أي مرض مما يشكو منه أي إنسان لم يتجاوز الخمسين أو الستين.
كان يكثر من ترديد الآيات القرآنية التي تدعو إلى شكر النعمة مثل (لئن شكرتم لأزيدنكم) ومن الأحاديث الشريفة).
تعالو بنا إلى محطة أخرى لنستعرض سلوكاً حضارياً آخر يمارسه الخواجات ليس من منطلق ديني رغم أنه ينطوي على ذات المعاني التي أمر بها ديننا وهو ينهى عن الإسراف حتى في استهلاك الماء ولو كنت على نهر جار .
يقول أحد الطلاب : (عندما وصلت إلى هامبورغ بألمانيا ..رتب أحد زملائي الموجودين في هامبورغ جلسة ترحيب لي في أحد المطاعم .. وعندما دخلنا المطعم لاحظنا أن كثيراً من الطاولات كانت فارغة وكان هناك طاولة صغيرة يجلس عليها زوجان شابان لم يكن أمامهما سوى اثنين من أطباق الطعام وعلبتين من المشروبات ..
كنت أتساءل وأنا أنظر إلى تلك الوجبة البسيطة :ماذا يا ترى ستقول تلك الفتاة عن بخل زوجها؟. وكان هناك عدد قليل من السيدات كبيرات في السن يجلسن جانباً.
طلب زميلنا طعاماً كثيراً فقد كنا جياعاً .. وبما أن المطعم كان هادئاً وصل الطعام سريعاً.
لم نقض الكثير من الوقت في تناول الطعام وعندما قمنا بمغادرة المكان كان حوالي ثلث الطعام متبقياً في الأطباق ..
ولم نكد نصل باب المطعم إلا وصوت ينادينا .. لاحظنا السيدات كبيرات السن يتحدثن عنا إلى مالك المطعم ..وعندما تحدثوا إلينا فهمنا أنهن يشعرن بالاستياء لإضاعة الكثير من الطعام المتبقي .
أجابهم زميلي : ” لقد دفعنا ثمن الطعام الذي طلبناه فلماذا التدخل فيما لايعنيكم ..؟!
إحدى السيدات نظرت إلينا بغضب شديد واتجهت نحو الهاتف واستدعت أحدهم ..
بعد فترة من الزمن وصل رجل في زي رسمي قدم نفسه على أنه ضابط من مؤسسة التأمينات الاجتماعية وحرر لنا مخالفة بقيمة 50 يورو .
التزمنا جميعا الصمت ..وأخرج زميلي 50 يورو قدمها مع الاعتذار إلى الموظف.
قال الضابط بلهجة حازمة :
” اطلبوا كمية الطعام التي يمكنكم استهلاكها .. المال لك لكن الموارد للجميع .. وهناك العديد من الآخرين في العالم يواجهون نقص الموارد ..ليس لديكم سبب لهدر الموارد ” .
إحمرت وجوهنا خجلاً ..ولكننا في النهاية اتفقنا معه .
نحن فعلا بحاجة إلى التفكير في هذا الموضوع لتغيير عاداتنا السيئة .
قام زميلي بتصوير تذكرة المخالفة وأعطى نسخة لكل واحد منا كهدية تذكارية .
المال لك .. لكن الموارد ملك للجميع ” .
كم بربكم نهدر نحن السودانيين من مواردنا القومية ظانين أن ما نصرفه في بيوتنا وفي حياتنا الخاصة لا يخصم من موازنة الدولة ؟ متى تدخل هذه المعاني في مناهجنا التعليمية وفي إعلامنا وثقافتنا العامة؟!
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة