دور قديم متجدد، ظلت تمارسه المخابرات المصرية تجاه لفيف من القطاعات الحيوية في السودان، لتحديد مساحات حراكها، والرقابة على أنشطتها لضمان وتأكيد المصالح المصرية، وذلك من خلال كثير من الأدوات (المشروعة وغير المشروعة سراً وعلانية) خاصة في مجال الري، والمشروعات الزراعية المروية، والإعلام، والسياحة والآثار، وغيرها من الأنشطة التي تلحق الأذى بالمنافسة مع المصالح المصرية العليا، ولذلك تأخرت كثيراً مشروعات السدود في السودان، برغم أنها مقررة ومدروسة منذ عقود السنوات، (مروي مثلاً) كانت دراساته جاهزة منذ العام 1946م قبل التفكير في السد العالي، والفشل الواضح في مشروع الجزيرة لا يستبعد فرضية التدخل المصري حتى يتوفر الماء ويمضي (سلفة غير مستردة لمصر) وكساد كل المشروعات المروية هو بالضرورة يوفر الماء ليتدفق إلى مصر، مما يقتضي إعادة الفحص والنظر لماذا تداعت هذه المشروعات تباعاً؟
ولأن (الإعلام) هو السلاح الأكثر فاعلية من حيث إنه الموجه للرأي العام، ويمكنه الطرق على قضايا وجعلها حاضرة في وعي الناس، وكذلك يمكنه أن يظلل مساحات بعينها، فلا ترى العيون ما يجري بداخلها، وتُعزل بعيداً عن الذاكرة والوجدان، والإعلام يمكنه أن يرفع قيمة، ويحط أخرى، ويعلي شأناً ويسفه آخر، وينور، ويعلم، ويجهل، ويسخر، ويكشف الخبايا، ويفضح المستور، ولذلك ضربت المخابرات المصرية بأوفر أسهمها لتطويع الإعلام السوداني ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، من خلال الدعوات، والمؤتمرات، ومختلف المحافل التي تُرسل من خلالها الرسائل لإعادة برمجة القناعات، والتشكيك في الثوابت، فضلاً على أساليب أخرى باستثمار نقاط الضعف، والضغط عليها، والابتزاز، “مثلما فعلت مع أحدهم يوماً وجعلته يدين الدولة والحكومة في مؤتمر صحفي عقدته المخابرات”.
وتدخل كذلك الهدايا الملغومة، ونثريات السفر، والبرامج الترفيهية المصاحبة، كلها (ليست لله) وينتظر منها العائد، وهو التماهي مع الموقف المصري و(أن تميل محل ما مال)، وأن تضرب الذكر صفحاً عن أي موضوع سوداني متعلق بذمة مصر.
نعم.. هذه هي الفكرة لإدارة ملف الإعلام بالسودان، المودعة لدى أيدي المخابرات المصرية، ولكنها (أي المخابرات) لم تنس أن (الزول السوداني) ربما لن يستجيب طوعاً للرغبة المصرية المخابراتية، ولذلك وضعت العصا بالقرب من الجزرة، مثلما يقول علماء السلوك (الجشتلط)، ومن أهم أدوات الأذى هو المنع والحرمان من دخول مصر، مع وجود واقع داخلي كثيراً ما يحمل الناس على السفر بغرض العلاج، أو الدراسة، أو السياحة والتسوق، أو العبور إلى بلد آخر، وهذه أنشطة إنسانية لازمة، ومن هذا الباب ترصدت المخابرات كل صاحب قلم عنيد ووطني غيور، ووضعت لائحة بأسماء هؤلاء حتى لا يعتبوا مصر، عقاباً لهم على عدم استجابتهم لأمر المخابرات، وتمنُعهم على (الإغراء) الذي هوى برؤوس كثيرين من العالم العربي والأفريقي، وقعوا في شراك الإخطبوط المخابراتي المصري ودفعوا الثمن غالياً جداً.
ووضعوا الصحفي وكاتب الرأي السوداني موضعاً في أن يختار وطنه وقضاياه أم شرف الدخول إلى مصر، كيف ما كان الغرض..
الصحفي المحترم (الطاهر ساتي) الذي اعتذر قبل شهر عن قبول (دعوة) لزيارة مصر (بتذاكرها ونثرياتها ولمدة أسبوعين وضمن البرنامج مقابله الرئيس السيسي)، لو أنه قبل الدعوة (الملغومة) لما تعرضت له مخابرات مصر، بل لاستقبلته وهزت له (ذيلها) احتفاءً بمقدمه، وهي توثق كل ما كتبه قلم الطاهر ساتي دفاعاً عن وطنه في مقابل التجني المصري.
بمعنى أنها (مسامحاه) على ما سلف، ومن خلال برنامج الزيارة، ولمدة أسبوعين كفيلة بفتح صفحة جديدة مع الطاهر ساتي، ولكن هذا الصحفي المحترم عاف الجزرة، “وشمّ فيها رائحة الصرف الصحي، الذي تشربته حيث استُزرعت بأيدي المخابرات المصرية”.. واعتذر عن الدعوة مما أثار حنق وغضب المخابرات، كيف لهذا السوداني (عم عثمان) أن يمتنع عن دعوة (الباشا)، فكانوا له بالمرصاد عند بوابات الدخول في مطار القاهرة، وهو الذي يحمل تأشيرة الدخول في جواز سفره من السفارة المصرية بالسودان..
المهم.. الرسالة وصلت، ليست بالطبع الرسالة المصرية، ولكن الأهم الرسالة السودانية، بأن الأقلام لن تنكسر تحت وطأة الضغط في الجانب الإنساني (مرافقة زوجة مريضة)، مما يُجرد الطرف الآخر من النبل وكريم الأخلاق (كأن بينهم وبينها بيداء دونها بيد)، كما قال المتنبئ في عهد المملوكي كافور الأخشيدي حاكم مصر.
والحمد لله أن كُشف القناع، وظهر الوجه المصري الوقح بإعلامه وسلوكه المخابراتي تجاه السودان، ومن يحمل همه، ويلتزم قضاياه.
ويبقي التحدي، هل ستنكسر أقلام الصحافيين السودانيين وكتاب الرأي بأدوات المخابرات المصرية البالية؟
اللواء ركن م/ يونس محمود محمد
اليوم التالي