(1) (أن تأتي متأخراً خيراً من أن لا تأتي) . نعترف كسودانيين أننا تأخرنا كثيراً في التعرف على بلادنا كدولة سياحية من الدرجة الأولى بما يزخر به السودان من ثروة بشرية وبيئية وآثار وأهرامات وحيوانات برية وأنهار وبحار وجبال ووديان ومناخات متنوعة ومتعددة ، نعم ؛ قصرنا ولكن ما زال في الإمكان تدارك هذا التقصير وربما القصور .
(2)
لم أتردد عندما علمت بزيارة محمية الدندر الطبيعية في إطار مشروع التعريف بالسودان الذي طرحته (جمعية الصحفيين الشباب – جاش) ، الدافع كان كبيراً والأشواق متدفقة لرؤية هذه البقعة المنسية من بقاع الوطن والتي تفوق مساحات دول أوربية وعربية عديدة ! ، أكثر من (50) إعلامي هم قوام الرحلة ، يمثلون عشرات الصحف والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية والإذاعات ووكالات الأنباء العالمية وعدد من المخرجين والميديا الحديثة وصانعوا الأفلام .
(3)
السادسة والنصف من صباح الخميس كان موعد الهجرة إلى الجنوب ، جنوب الخرطوم ، وصلنا سنجة في خمس ساعات واستقبلتنا وزارة الثقافة والإعلام والسياحة بحضور الوزيرة ومعتمد الرئاسة ، ثم انتهى بنا المقام باستراحة الإدارة العامة للحياة البرية وإدارة محمية الدندر الإتحادية بمدينة الدندر ، الأستاذ حبيب الله يعقوب الشيخ معتمد محلية الدندر والعقيد عبد اللطيف ضو البيت مدير الحياة البرية والعقيد عادل محمد عبد الله قائد ثاني الحياة البرية ورئيس وحدة المحمية وعدد من القيادات ، رحَّبوا بنا ، وتم عرض بروجكتر تعريفي عن المحمية ، وتناولنا وجبة الغداء ، وجمعنا صلاتي الظهر والعصر .
(4)
الخامسة والنصف عصراً ودعنا البص السياحي وانتقلنا إلى حافلات صغيرة كانت في إنتظارنا ، رافقنا مدير المحمية العقيد عادل محمد عبد الله ووفده ، وتحركنا نطوي الفلا طيا ، وديان ورمال ومطبات قطعناها في طريقنا للمحمية ، مررنا بـ(20) قرية (التكينة – حلة صالح – بردانة – أم هجر – اللويسة – كاكوم – كسيد – نجم الدين – كلجة – ود بايو – خميسة – ود الزبير – أبو هشيم – أروما – التكمبري – لبركي – العزازة ود داموس – أم بقرة – السنيط ) توقفنا في سوق (العزازة) ثم (أم بقرة) وواصلنا المسيرة القاصدة ، داخلنا معسكر (قلقو) في قلب المحمية وكانت عقارب الساعة تقترب من الحادية عشر مساءاً .
المعسكر عبارة عن منتجعات تم تشييدها على الطراز التقليدي بالمواد الثابتة ، مهيأه للسكن بأسِّرة فخيمة ومراوح ثابتة ومتحركة ، بجانب برج تقوية لشبكات الهاتف السيار يدعم خدمة الإتصال والإنترنت بسرعة فائقة ، فضلاً عن دورات مياه ومسجد متواضع تقام فيه الصلوات الخمس وخطبة الجمعة ، ومتجر ومخبز وميدان لكرة الطائرة ومهبط للطائرات وأشجار ظليلة وصالة معرض متنقل وكافيه شعبي .
(5)
المحمية غنية بمساحات شاسعة ، وتحدها ثلاث ولايات ودولة ، وتتمتع بثروة برية متنوعة ومتعددة (أكثر من 500 نوع من الطيور ، فضلاً عن (27) نوع من الثديات المفترسة والأليفة تقدر بحوالي (72.000 – 82.000) حيوان ) والزواحف والأسماك والحشرات ، بجانب ثروة غابية تقدر بملايين الأشجار (جميز – طلح – عرديب – تبلدي – دوم – أبنوس – دليب – هشاب – سنط – وغيرها) ، وعدد من الميعات والوديان (نهر الدندر – نهر الرهد) .
(6)
المتعة والراحة النفسية والجسدية تحيط بك من كل جانب ، كيف لا ، وأنت ترى المياه والخضرة وتستنشق الهواء والنسيم الدعاش ، شروق الشمس وغروبها هناك له طعم ومتعة خاصة ، الغيوم تمنع الشمس من إرسال أشعتها ويظهر الصباح خجول يتسرب بين نسمات الغيوم ، وترى أسراب الطيور ، وشقاوة القرود ، وخفة الغزال بعيونها الكحيلة ، وحرص الجاموس ، وثقل الكتمبور ، وغباء الخنزير البري ، وثقة اللبوة ، وكبرياء الأسد ، ورقص النعام ، وطوابير دجاج الوادي .
(8)
قائد المحمية والجيش والأمن وكل القوات الشرطية بوحداتها المختلفة هناك ، ترى فيهم العيون الساهرة والرقة واللطف والتعامل الراقي والتواضع الملفت والوجه البشوش والبسمة الساحرة ، تحس بأن هناك فرق بينهم وأقرانهم في الأماكن الأخرى ، وأن اختيارهم تم بعناية فائقة لأداء مهمة المرشد السياحي الخبير بمكونات النفس البشرية على اختلافها وعلاتها ، والخبير بالدروب والطرق والحريص على السائح والزائر وأمنه ، فضلاً عن حماية المحمية وتأمينها .
(9)
زيارة المحمية متاحة للجميع ؛ وليست مكلفة ؛ وتبعد عن العاصمة الخرطوم (570) كلم ، فقط طلب إذن دخول من إدارة المحمية بالخرطوم أو بإدارة المحيمة بالدندر ، وتكلفة الإذن للأجنبي (15) دولار وللسوداني (50) جنيه ، والوفد (500) جنيه ، بجانب (50) دولار لليوم الوحد للأجنبي و(50) جنيه للسوداني ؛ نظير تقديم خدمات السكن والتأمين والإرشاد السياحي داخل المحمية ، ويبدأ الموسم السياحي منذ ديسمبر وحتى مايو .
(10)
في الأعوام السابقة وبشهادة العقيد مدير المحمية حدث إزدهار للسياحة بالمحمية ، سيما من سياح الدول العربية ، وأحياناً يأتي وفد واحد قوامه (100) سائح ، وهذا التحسن يرجع بعد فضل الله لسياسات وزارة السياحة والآثار والحياة البرية الاتحادية والوزارات الولائية ووسائل الإعلام ، ونريد أن نصل بالسياحة لموقع نعوض به فاقد البترول الذي خرج من الميزانية العامة ، وهذا الهدف ليس ببعيد ؛ إذا علمنا أن هناك دول تعتمد على ميزانيتها على السياحة . كذلك للتعريف بما يزخر به السودان من جواذب سياحية عريقة .
(11)
في القرن السابع عشر سكنت قبائل (العنج) موقع المحمية الحالي ، ويواصل مدير المحمية العقيد عادل ويقول : كثيراً ما نجد قبور ورفات تدل على أنهم كانوا طوال وعراض . ثم سكنتها قبائل أخرى وعندما اندلعت الثورة المهدية في القرن الثامن عشر أجبرتهم على التجنيد والمشاركة في الجيش ، وعندما حدثت المجاعة ١٩٠٦م نزح منها السكان ، وأصبحت مهجورة من السكان ، ومع توفر مصادر المياه ونمو الأشجار الكثيفة والبيئات المختلفة ، صارت عنصر جذب للحياة البرية وتجمعت الحيوانات واستقر بها المقام ، وزارها صمويل بيكر واقترح على بريطانيا تسجيلها ضمن المحميات العالمية وأصبح السياح البريطانيين يزورونها باستمرار ، وتم ذلك في العام ١٩٣٢م وأعلنت رسمياً في العام ١٩٣٥م .
(12)
يعتبر المجتمع الحيوي – السكان الذين يسكنون داخل المحمية وفي أطرافها – أكثر الفئات التي تعمل على حماية المحمية ، ويتشكل هذا المجتمع من حوالي (22) قرية (أم كراع – أم بقرة – خيرات – أم سلالة – نور المدينة – أم كراع هوج – ستيت – أم جمام غرب – هنا الأزرق – حلة هاشم – الرميلة ) ، عشرة منها تسكن داخل المحمية أبرزهم (الإمبررو) وبقية القرى تجاور المحمية ، وفي السابق كانت العلاقة مضطربة بينهم وإدارة المحمية ، إلا أنها وقبل أعوام قفزت لتصل مرحلة التوأمة والشراكة الذكية وذابت كل مسببات الخلاف والتفرقة وصارت العلاقة حميمية وذات مصير مشترك يهدف للحفاظ على الحياة البرية ومكونات المحمية . الشيخ البدري محمد علي العجبة عمدة مدينة الدندر ورئيس تطوير المحمية امتدح التعاون الكبير بين إدارة المحمية والقبائل المجاورة وشكا من عدم تخصيص مساحات رعوية كافية مما يضطر البعض للتغول على أراضي المحمية بالزراعة والرعي ، ونادى بتخصيص مساحات وتوفير مقومات التنمية من مدارس ومشافي .
(13)
يعتبر الصيد الجائر والزراعة الجائرة والرعي الجائر وقطع الأشجار والحرائق وتعدي الإثيوبيين على أراض المحمية وزارعتها أكثر المهددات التي تؤرق إدارة المحمية والمجتمع الحيوي هناك ، وبهذه المهددات فقدت المحمية (النمور والزراف) عن طريق قتلها من قبل المزارعين ، بجانب ممارسات سالبة يقوم بها المتفلتين من المجتمع الحيوي حول وداخل المحمية عبارة عن رعي جائر يساهم في الغالب بنقل أمراض هذه الحيوانات إلى حيوانات المحمية الطبيعية مما يشكل مهدد صحي خطير ، كذلك غياب العقوبة الرادعة تمثل دافع لهؤلاء ، ويتفق معي العقيد بضرورة سن قوانين جديدة تعمق العقوبة لمن يقطع شجرة أو يصطاد أو يرعى أو يزرع داخل حدود المحمية .
(14)
الكرم الفيَّاض والترحاب البشوش كان حاضراً في زيارتنا منذ الاستقبال حتى الوداع الذي زُرفت فيه الدموع ، شهدنا بمقر إقامتنا بمعسكر قلقو كرماً فيَّاضاً من إدارة المحمية ، كذلك المجتمع الحيوي الذي أعدَّ لنا وليمة غداء بقرية (أم كراع) تداعى لها أهالي العشرين قرية . وتواصل الكرم المعطاء من قرية (التكمبري) حيث الشيخ بلة أب شعر وأهالي ومواطني القرية الذين خرجوا عن بكرة أبيهم في استقبالنا وضيافتنا ، كذلك يتمد حبل الكرم في قرية العمارة الشيخ هجو ، وغيرهم كُثر إلا أن الوقت لم يسمح لنا فجزاهم الله خيراً .
(15)
المحمية تحتاج لعربدة الطريق الموصل لها من مدينة الدندر ، وهذا الطريق يعتبر الشريان الذي يضخ السياح للمحمية طوال أيام العام ، وبسبب إنعدامه ينقطع السياح عن المحمية قرابة الثمانية أشهر ، لنزول الأمطار ووعورة الطريق ، حيث يستغرق المشوار من مدينة الدندر وحتى المحمية أيام الخريف أكثر من سبعة أيام ! ، مما يعتبر منفراً وطارداً حتى للسائح السوداني ناهيك عن الأجنبي . كذلك تحتاج المحمية لإحداث مهرجان للسياحة والتسوق بصورة ثابتة سنوياً يعرف المجتمعات ويحدث حراكاً بالمحمية .
(16)
شكراً محمية الدندر إدارةً وقيادةً ومجتمع حيوي ، شكراً جمعية الصحفيين الشباب (جاش) ، شكراً لكل أفراد الرحلة المميزة التي تعتبر من أميز الرحلات التي حظيت بها .
الدندر : عمر عبد السيد