استعرضنا بالأمس بعضاً مما جاء في كتاب (مهمة الموساد في جنوب السودان) الذي صدر مؤخراً، ويؤرخ لدور ضابط جهاز المخابرات الإسرائيلية “ديفيد بن عوزئيل” الملقب بـ”طرزان” والمعروف في الجنوب بالجنرال “جون”، في رعاية المتمردين (الجنوبيين) منذ ستينيات القرن الماضي، وصولاً إلى رعاية التمرد الذي اندلع في العام 1983م بقيادة العقيد “جون قرنق ديمبيور”، وكان قد ظهر في بدايات ثورته المسلحة بشعارات (ماركسية) حمراء، ولكن سرعان ما تولته المخابرات الأمريكية وجهاز “الموساد” والمنظمات الكنسية بالدعم والتمويل والتدريب.
{ الخطة الإستراتيجية لدولة الكيان الصهيوني ظلت ترتكز منذ الخمسينيات، قبيل استقلال السودان، على مشروع (فصل) السودان عن “مصر”، واعتراض أية محاولة للوحدة بين دولتي وادي النيل، وقد حاولت “تل أبيب” التواصل مع (تيار الاستقلال) الذي يمثله حزب الأمة، في مقابل الدعم “المصري” لتيار (الاتحاديين) بقيادة الزعيم “إسماعيل الأزهري”، ويشير هذا الكتاب إلى هذا المحور ضمن معلومات كثيفة عن الدور الإسرائيلي القديم في السياسة السودانية، وما أنجزته الدولة العبرية بتحقيق مشروع (انفصال) جنوب السودان عن شماله.
{ إن ما يحدث الآن على صعيد العلاقات السودانية المصرية بفعل عملاء (الموساد) في السودان ومصر- ومعلوم أن بعض المؤسسات الإعلامية “المصرية” مخترقة من قبل “إسرائيل”، وأن هناك عدداً من الإعلاميين والفنانين المصريين على صلة بالدولة العبرية منذ سنوات- أقول إن ما يحدث من توترات واستفزازات (مصنوعة) وهي تمضي بوتيرة متصاعدة عبر محاور متعددة، إعلامية، وشعبية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ورسمية بتبادل الاتهامات على منبر الأمم المتحدة، هو حلقة من حلقات مشروع الإستراتيجية الأمنية لدولة “إسرائيل الكبرى” في المنطقة.
{ الحكاية ليست “حلايب” ولا “شلاتين”، ولا فواكه مسقية من مياه الصرف الصحي، ولا طماطم فاسدة أو “كاتشب” ملوث.. الحكاية أكبر من ذلك بكثير، وكما استدرجونا من قبل لتنفيذ سيناريو (فصل) الجنوب عن الشمال، عبر سلسلة استفزازات ومواقف مصنوعة بين الحكومة والحركة الشعبية، فإن ذات المشاهد تتكرر اليوم بأيدينا، تشارك فيها دون وعي جمهرة من السذج والعوام وأدعياء الوطنية الكذابين، لجر الدولتين- السودان ومصر- إلى (مواجهة حربية) مدمرة للطرفين، أو (قطيعة دبلوماسية) على طريقة قطع علاقاتنا مع “إيران”، لتبدأ (حرب المخابرات) والاستنزاف الطويلة التي لن تبقي ولن تذر..!!
{ طالعوا معي الجزء الثاني من مختصر كتاب (مهمة الموساد في جنوب السودان) الذي نشره موقع (ميدا) الإسرائيلي:
{ قال الكتاب إن حركة (الأنانيا) الانفصالية التي تأسست خلال الحرب الأهلية السودانية الأولى 1955 ــ 1972، تحولت فيما بعد إلى جيش قوي بفضل ثلاثة من ضباط “الموساد”، في مقدمتهم (طرزان). ولفت إلى أن هذا الضابط كان له الدور الأهم في تقديم المشورة العسكرية والتنظيمية للانفصاليين.
{ وكشف أن (طرزان) كان يعمل إلى جانب ضابط آخر هو “إيلي كوهين”، الذي عمل مستشاراً سياسياً للانفصاليين، وضابط آخر اسمه “تشارلي”.
{ وأدى الضباط الثلاثة دوراً مهماً في تدريب الجنوبيين على كيفية تأسيس الجيش وتقسيمه إلى وحدات عسكرية، إضافة إلى تزويدهم بالأسلحة.
{ وطبقاً لما استعرضه الكتاب، فمنذ الستينيات من القرن العشرين، استمر الدعم العسكري ونقل الأسلحة والمعدات الحربية من إسرائيل إلى جنوب السودان، وهذه الأسلحة شملت بنادق ورشاشات وقنابل يدوية وألغاماً وصواريخ مضادة للدروع وأجهزة اتصالات.
{ ولم تكتف إسرائيل بذلك، لكنها أيضاً قامت بإمداد الانفصاليين بملابس ومستلزمات عسكرية بكميات كبيرة كانت في معظمها غنائم من الجيشين (المصري) و(السوري)، من حرب (الأيام الستة) عام 1967م.
{ ودلل الكتاب على الدعم الإسرائيلي لفصل الجنوب من خلال إشارة رئيس دولة جنوب السودان “سلفا كير ميارديت”، التي قال فيها إنه ظل يوجّه الدعوة إلى (طرزان) لزيارة بلاده بعد إعلان انفصالها عن السودان.
{ واستقبل “سلفاكير” الجنرال “جون” أو (طرزان) وكرّمه بصورة خاصة في القصر الرئاسي في “جوبا”، بل وجّه رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيليّ “بنيامين نتنياهو” أشار فيها إلى أنه عيّن الجنرال “جون” موفداً وممثلاً شخصياً خاصاً عنه في “إسرائيل”، كما ورد في الكتاب.
{ وتناول كتاب (مهمة الموساد في جنوب السودان) الكيفية التي وصلت فيها إسرائيل إلى الانفصاليين في جنوب السودان، حيث أوضح أنها تمت عبر ثلاث مراحل.
{ أولى هذه المراحل كانت إقامة علاقات إسرائيلية مع “السودان” قبل انفصاله عن “مصر”، والدلائل على وجود تلك المرحلة عديدة، فبعد تأسيس دولة “إسرائيل” مباشرة، أقيمت علاقات تجارية بينها والسودان.
{ وفي عام 1953، بدأت الحكومة الإسرائيلية مرحلتها الثانية، حيث دعمت معسكر (استقلال السودان) عن “مصر”، حيث التقى الإمام “الصديق المهدي” والسيد “محمد أحمد عمر” بالسكرتير الأول للسفارة الإسرائيلية في لندن “مردخاي غازيت” بعد أن ساعدت بريطانيا على ذلك، ووعدت إسرائيل في هذا اللقاء بمساعدة وتمويل حزب الأمة لمواجهة الدعم المصري للاتحاديين، وتحقيق الحصول على الاستقلال.
{ غير أن رمزنا الوطني الكبير والمحترم زعيم حزب الأمة القومي الإمام “الصادق المهدي” الذي أكد لاحقاً لقناة (الجزيرة) حقيقة مقابلة والده لدبلوماسي إسرائيلي في “لندن” عام 1953 بوساطة “إثيوبية”، أكد أيضاً أن حزب الأمة لم يتلق أي دعم من “إسرائيل” في أي وقت من الأوقات، وأن تلك المقابلة لم تسفر عن شيء، وانتهى الأمر هناك.. في عاصمة الضباب.
(نواصل)
الهندي عز الدين
المجهر