مشاهدات من داخل ميز أطباء بحري
بئر معطلة وقصر مشيد
الميز يسبح في بحيرة صرف صحي
وعود من وزيرة الصحة بالدولة لم تنفذ
المشردون يشاركون الأطباء السكن
الميز تحول إلى مكان لقضاء الحاجة ومخزن الإطارات القديمة
وأنا ألملم أوراقي توطئة لمغادرة مقر الصحيفة لأداء مهمة صحفية داخل ميز أطباء بحري.. في الطريق استعادة ذاكرتي أحداث إضرابات لجنة الأطباء في العام الماضي وكيف تحققت معظم مطالبهم بعد تنفيذ إضرابات كانت ناجحة بشهادة السلطة التي سارعت للاعتراف بحقوق الأطباء وشرعت في إيجاد حلول لها.. لكن ما لم يخطر ببالي ولا بقلب أحد ما رأيته وشاهدته داخل ميز أطباء مستشفى بحري من مشاهد صادمة للغاية وماسأة تتطلب إقالة أو استقالة القائمين على المستشفى.
أوضاع مأساوية
إلاوضاع المأساوية بدأت قبل أن أتوغل داخل دهاليز الميز المظلم والمظلوم.. في البداية اتصلت بأحد الأطباء هناك مستفسراً من مدخل الميز الرئيسي إذ كنت حينها بالجانب الشرقي منه فخاطبي قائلاً يمكن الدخول من أي ناحية في هذه الجهة إذ لا يوجد سور ولا حاجز يعترض مسارك، تقدمت خطوات غرب موقف مواصلات الجيلي ووجدت نفسي وسط غابة من الحشائش والنباتات الطفيلية تغمرها مياه الصرف الصحي وفضلات الإنسان بنوعيها وإطارات العربات القديمة والمهترئة والإسلاك الصدئة والروائح الكريهة النتنة. وأنا وسط هذه المأساة يمر أمامي شاب وشيخ وكهل ويدخلون إلى فناء الميز ويغيبون وسط الغابة لقضاء حاجتهم هكذا في الهواء الطلق باطمئنان دون أن يطردوهم حارس ولا يؤنبهم ضمير.
ساعات حزينة
ثلاثة ساعات كاملة قضيتها داخل الميز فقط بغرض التأكد من صحة ما نقل إلي على لسان الأطباء إذ اعتبرت بعض حديثهم من وحي عبقريتهم وخيالهم لأن بعض هو ضرب من ضروب المستحيل أن يحدث في ظل حكم راشد أو وزارة صحة مسؤولة وعين ساهرة وحارسة. نعم تأكدت من أن كل مانقله الأطباء صحيحاً آبار صرف صحي معطلة رغم البنايات الضخمة المشيدة على أرض كانت استقطعتها إدارة المستشفى من ميز الأطباء مقابل صيانته صيانة تامة لكن شيء من وعود إدارة المستشفى لم يتحقق غير ترميم في بعض المبان وإصلاح لأبواب ونوافذ الغرف وغيرها من الأشياء التي يمكن للأطباء صيانتها بالجهد الذاتي ودون اللجوء إلى إدارة المستشفى.
وعود الوزيرة
يقول أحد محدثي أن وزيرة الدولة بوزارة الصحة سجلت زيارة خاطفة إلى الميز وشاهدت كل هذه المأساة بأم عينها أيام أزمة إضراب الأطباء وعلقت بنبرة حزينة على ما شاهدته قائلة لا يمكن أن يعيش زملاء مهنة بهذه الطريقة ثم وعدت بأن تحول هذه المأساة إلى لوحة زاهية لكن شيء من ذلك لم يحدث إذ لازالت اللوحة القديمة منصوبة شرق مبان المجمع الجراحي تحكي عن إهمال متعمد من المسؤولين لرسل الإنسانية ما أجبر بعضهم إلى تفضيل الهجرة خارج البلاد وبعضهم فضل مغادرة الميز خير من إصابته بأمراض أخفها مرض الملاريا نتيجة لتوالد الباعوض بكثافة داخل برك مياه الصرف الصحي وحشائش غريبة تشاركهم السكنى.
حديث جرئ
بعض الأطباء تحفظ من التحدث إلي عمداً خوفاً من سيف المحاسبة الذي تشهره الجهات المسؤولة عنه مباشرة في وجهه كلما تفوه بكلمة غاضبة أو طالب بحق لكن نائب رئيس لجنة الميز كان أكثر جرأة في حديثه الي وهو يقول لي أن الحالة الماثلة أمامك لا تحتاج إلى شرح أو تفصيل فالصورة وحدها يمكن أن تنقل الى الرأي العام معاناتنا نحن أطباء السودان داخل أكبر مستشفى من مستشفيات عاصمة البلاد. ففاتورة الكهرباء والمياه التي تنصلت إدارة المستشفى عن سدادها أصبحت عبء إضافي يدفعه الطبيب من حر ماله عن طريق (الشيرنق) وكذلك نفعل اذا أردنا تكييف الغرف أو النظافة وقال إن فاتورة الكهرباء وحدها تكلف ما بين 2 إلى أربعة آلاف جنيه وهو مبلغ زهيد لا يكلف إدارة المستشفى. ثم أنظر الى هذا الطفح المائي المتدفق أنها مياه الصرف الصحي رغم أن آبارها محفورة بعمق معقول يصل عمقها إلى أكثر من ثلاثة أمتار تقريباً لكنها ونتيجة الإهمال وعدم شطفها منذ زمن بعيد طفحت لما ضاقت الآبار بالمياه ووجدت الطريق أمامها معبد لتغمر فناء الميز حتى نبتت هذه النباتات بكثرة وشكلت غابة أصبحت مأوى لمن اضطرته ظروفه لقضاء حاجته في العراء وتحول الميز الى مراحيض ومخازن لإطارات العربات القديمة.
حكايات محزنة
الأزمة استفحلت بشكل مخيف خاصة بعد أن هوى سور الميز الشرقي واتخذ المشردون من الميز مكاناً شرقياً يمارسون فيه كل طقوسهم وجرائمهم ليلاً وهي حكايات سردها أصحاب الميز الذين أصبح لا يمض لهم جفن والمشردين يشاركونهم السكن على مقربة من أسرتهم أبرزها حكاية مشردة اقتحمت الميز ووقفت أمام أحدهم في تبلد وهي في حالة اللا وعي نتيجة السكر ولم تغادر إلا بعد أن جاهد زملائه في اقناعها. ثم حكايات كثيرة ليست قابلة للنشر تحدث من المشردين داخل حرم الميز.
أطماع استثمارية
أثناء تجوالي داخل الميز بدأ لي أنني اتجول داخل منزل مهجور سنينا عدد فالحمامات متسخة والحنفيات منزوعة نتيجة السرقة والوضايات مهشمة وحتى أسلاك الكهرباء مبعثرة بالإضافة إلى أن العداد (مصفر) والتيار الكهربائي لحظتها مقطوع عن الميز فقط لعدم السداد. كل تلك الحكايات المحزنة مسرحها ميز أطباء يعملون ليل نهار من أجل راحتنا وعلى مقربة من وزارتي الصحة الاتحادية والولائية وأمام أعين إدارة مستشفى بحري المسؤول الأول عن صيانة الميز ومتابعته لكن يبدو أن هنالك ربما ضغوط تمارسها جهات لتجبر الأطباء على المغادرة أو ربما هنالك أطماع استثمارية حتى تكتمل مشاريع المستشفى الاستثمارية والتي بدأت بتشييد حمامات تجارية غصباً عن حمامات الأطباء المأزومة.
الخرطوم: علي الدالي
صحيفة الجريدة