الإنقاذ في ثوب جديد

في حضور لافت واستقبال حاشد خاطب الدكتور نافع علي نافع عضو المكتب القيادي للمؤتمر الوطني والأمين العام لمجلس الأحزاب الأفريقية، المؤتمر التنشيطي للقطاع السياسي للمؤتمر الوطني- خطاباً عميق المعاني والمقاصد، منتقداً الأحزاب السودانية خاصة الأحزاب الكثيرة، التي انخرطت في الحوار الوطني محدداً في إشارات واضحة عناصر ديمومة الأحزاب وتأثيرها المباشر في قيادة الجماهير وتجمعها ومؤازرتها لتلك الأحزاب.. حدد تلك العناصر بأن يكون الحزب مؤسسة لها فكر وهياكل تنظيمية منضبطة وبرامج سياسية محددة في كيفية إدارة الدولة، مشيراً الى أن كثيراً من الأحزاب القائمة تفتقر الى تلك المؤسسية والبرامج والفكر، بل معظمها يقوم على قيادة كارزمية واحدة هي التي تقود الحزب، حتى لو كان بجماهير وعضوية ضئيلة جداً.. ما كان يرمي له د. نافع أن مثل هذه الأحزاب لن تفيد الحكم في السودان، ولن تشكل معارضة قوية فكراً وتنظيماً تراقب وتوجه نظام الحكم في حالة التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة.. من أمثلة الأحزاب المؤسسية التي تحمل فكراً وبرامج وهياكل تنظيمية قوية، أتاح لها الديمومة والتطور في الحكم أو المعارضة حزبان هما المؤتمر الوطني والحزب الشيوعي السوداني- المؤتمر الوطني يحمل فكراً إسلامياً راسخاً ويتمتع بهياكل تنظيمية قوية ومنضبطة، وبرامج وسياسات متجددة أتاحت له البقاء في الحكم أكثر من ثمانية وعشرين عاماً، في ديناميكية متواصلة جعلته يبدل في قيادته دون الركون الى قيادة تاريخية واحدة، ففي العشر سنوات الأولى كان القدح المعلى في القيادة للحركة الإسلامية بقيادة الدكتور حسن الترابي رحمه الله، والتي كان فيها إعمال سياسة التمكين والقبضة الأمنية العنيفة.. والعشر سنوات التالية صارت القيادة السياسية والتنفيذية ثلاثية بين الرئيس البشير والأستاذ علي عثمان محمد طه ود. نافع علي نافع، والتي فيها استمرت سياسة التمكين ومعاداة أمريكا والغرب، والتقارب مع ايران، ومعاداة السعودية ودول الخليج، حتى تم توقيع اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005 ، والتي قادت الى انفراج نسبي في الحريات، وذلك بدخول الحركة الشعبية شريكاً في الحكم حتى انفصال الجنوب في يوليو 2011م، وبعدها دانت السلطة والقيادة الكاملة للرئيس البشير حتى اليوم وتبدلت خلال تلك الفترة القيادة السياسية والتنفيذية، إذ تم إبعاد د. نافع عن القيادة السياسية في المؤتمر الوطني، والأستاذ علي عثمان من القيادة التنفيذية كنائب أول للرئيس، وتولى القيادة السياسية في المؤتمر الوطني بعد د. نافع أولاً بروفيسور غندور ثم حالياً المهندس ابراهيم محمود حامد، وتولى القيادة التنفيذية بدلاً عن الأستاذ علي الفريق أول ركن بكري حسن صالح، والذي أصبح مؤخراً رأس الرمح في القيادة الكاملة التنفيذية بعد توليه منصب رئيس مجلس الوزراء القومي إضافة الى منصبه كنائب أول للرئيس.. طوال هذه الفترة الثالثة واصلت الإنقاذ الحكم في تماسك وقوة، مكنتها المؤسسية الحزبية من بسط الأمن ورفع كفاءة الجيش والشرطة وجهاز الأمن حتى انتصرت على الحركات المسلحة في دارفور والمنطقتين، وأضعفت الأحزاب السياسية (التي تفتقر الى المؤسسية والقيادة الجماعية) بجزرة الحوار الوطني وكراسي الوزارة، أو بجرثومة التشظي، حيث انقسم الحزبان التاريخيان الأمة والاتحادي الديمقراطي الى أكثر من ستة أحزاب وفصائل في كل منهما.. في هذه الحقبة الثالثة من عمر الإنقاذ وبعد أن تأكد لأمريكا والغرب ودول الخليج أن نظام الإنقاذ قوي ومرن ومتماسك تحت القيادة القوية للرئيس البشير ونائبه الأول الفريق أول ركن بكري.. تحول العداء الى صداقة مصالح مشتركة توجتها امريكا بالرفع الجزئي المشروط للعقوبات، والسعي نحو التطبيع الكامل معها، وتبعت أمريكا دول أوروبية، متزامناً مع تحول جذري في العلاقة مع السعودية والإمارات في تنسيق واتفاقات قوية استراتيجية، سوف تؤدي الى تغيير كامل في مظهر وجوهر الحكم، يؤدي الى ضمان استقرار السودان وإبعاده تماماً عن شبح الفوضى الخلاقة، التي تضرب الكثير من الدول حوله وتؤدي أيضاً الى انتشاله من وهدته الاقتصادية، وكل ذلك سيقود الى مصالحة الغالبية العظمى من الشعب بسبب توفر السلع والخدمات بأسعار في مقدور تلك الغالبية، إذا واصل نظام الحكم في خطوات التطبيع مع أمريكا وأوروبا وباقي المجتمع الدولي، وهي الخطوات المشروطة بمصالحة الجماهير وبسط الحريات السياسية وإيقاف الحروب والتداول السلمي للسلطة.. كل هذه الديناميكية والمرونة أتت بسبب المؤسسية في المؤتمر الوطني الذي لم يتأثر بكل هذه التحولات الثلاثة خلال الثمانية وعشرين عاماً.. المثال الثاني لأثر المؤسسية والبرامج والأهداف والفكر في ديمومة الأحزاب هو الحزب الشيوعي السوداني، فهو أعرق حزب سوداني بدأ في أربعينيات القرن الماضي تحت اسم الجبهة المعادية للإستعمار، واستمر معارضاً لكل الأنظمة منذ ذلك الوقت حتى اليوم، وكان محكوماً بلجنة مركزية قوية تحمل فكراً متقدماً تحت زعامات وقيادات تاريخية مفكرة مثل المرحوم عبد الخالق محجوب، والمرحوم محمد ابراهيم نقد.. لم يتمكن الحزب الشيوعي من الحكم إلا في فترة انتقالية واحدة لمدة سنة بعد ثورة أكتوبر 1964 وفترة أخرى أيضاً لمدة عام عند قيام انقلاب مايو 1969 حتى 1970، حين قام نميري بإبعاد عناصر الحزب الشيوعي من حكم مايو وإعدامهم، وحظر الحزب الشيوعي بعد انقلاب المرحوم هاشم العطا غير الناجح في يوليو 1971.
بالرغم من ذلك ظل الحزب الشيوعي موجوداً في الساحة السياسية حتى اليوم، وذلك كله بسبب المؤسسية والفكرة والبرامج التي أشار اليها د. نافع في حديثه- وإن سخر من الحزب الشيوعي- لكن فيها ضمنياً اعتراف بوجود الحزب الشيوعي وأثره في المعارضة حتى اليوم.
لذلك على قيادة هذه المرحلة الثالثة من الحكم المنتهية في 2020 والمتمثلة في الرئيس البشير ونائبه بكري مواصلة العلاج بالمضاد الحيوي للفوضى الخلاقة دون توقف، في جرعات موقوتة من بسط الحريات السياسية والاجتماعية ووقف الحروب، ومحاربة التطرف والإرهاب، ومحاربة الفساد، ورفع المعاناة عن الجماهير، والقناعة بالتداول السلمي للسلطة حتى يتم التعافي الكامل، وننعم بثمرات التطبيع مع أمريكا والغرب والإخاء والمحبة مع السعودية والإمارات، لنستشرف عهداً جديداً زاهراً بإعادة تأهيل كل المشاريع والمؤسسات التي انهارت، ويعود الاقتصاد قوياً لينعم الشعب الذي صبر كثيراً برفاهية حصوله على السلع والخدمات بيسر وبأسعار في مقدوره، تحت مظلة العدل والمساواة والحرية والأمن والأمان في وطن موحد كما كان، شمالاً وجنوباً في ثوب جديد مظهراً وجوهرا.

اخر لحظة

Exit mobile version