حقاً كانت واحدة من أحداث السياسة السودانية ذات الحراك والدهشة، وبل السرعة التي من فرط جنونها جعلت حكومة من أعتى وأقوى الحكومات في المنطقة الإفريقية تذهب الى غير رجعة.
أقرب تشبيه لهذه الانتفاضة هو الإعصار المفاجئ الذي محا كل ما كان أمامه وهو ما تم لأسباب منطقية وموضوعية في عالم ساس يسوس. فبدايات نهايات حكم الرئيس النميري لم تكن في أبريل 1985م، بل كانت في تاريخ سابق للانتفاضة وتحديداً في العام 1982م حين كانت الوقفة الصلبة والتي هزت عرش النميري أيامها والمتمثلة في إضراب الأطباء ومن ثم كانت الأحداث المضادة لعرش النميري وفق متوالية هندسية سريعة التأثير على مجريات الأحداث.
أصل الحدث
بنظرة بسيطة للواقع المعيشي في تلك الفترة، نجد أن مرتب العامل الذي يعول أسرة تتكون من أربعة أشخاص الزوج والزوجة واثنين من الأبناء كان مائة وأربعون جنيهاً من حيث أن كيلو اللحم البقري كان بخمسة وثمانين قرشاً. أما كيس الخضار، فكانت قيمته جنيهاً واحداً. هذا في جانب إعاشة أسرة ودون طوارئ العلاج والكهرباء والرغيف ورسوم دراسة طالب واحد. هذا الدرك السحيق من معاناة المواطن كانت تداعياته في سخط عارم من قبل المواطنين وزائداً حالات الإضراب المتواصلة من قبل عدد من النقابات العمالية في عدد من مناطق البلاد، كان أشهرها بالطبع إضراب القضاة في 1982م ومن ثم كان إضراب عمال المهن الصحية الذي كان لثلاث مرات في الفترة منذ مايو 1982 حتى سبتمبر 1984م. استشعرت قطاعات كبيرة من المواطنين خطورة الأوضاع التي يعاني منها الشعب فكان تاريخ يوم 2 أبريل 1984م يوماً مشهوداً في تاريخ السودان، إذ أعلن الرئيس النميري قانون الطوارئ الذي أباح تأسيس محاكم للعدالة الناجزة لإسكات صوت المعارضين. وكان هذا القانون يهدف في المقام الأول لتحريم التجمعات والتشهير بالمعارضين عبر الإذاعة والتلفاز والصحف، فكان أن امتلأت جلسات المواطنين بالكثير المثير عن حملات الاعتقال وقفز الحائط من قبل أصحاب السلطة في أمر الاعتقال، فكان الأمر أشبه بسجن كبير اسمه دولة السودان، فاقم الأمر زيادة الأوضاع سوءاً، بل انعدام عدد من الاحتياجات الغذائية من الأسواق، فكان شهر سبتمبر من العام 1984م بداية تحرك عدد من النقابات والأحزاب السياسية لأسقاط حكم استمر ستة عشر عاماً.
تهريب اليهود الفلاشا
والأوضاع تزداد سوءاً، تم الكشف عن تعاون ما بين الحكومة السودانية ودولة الكيان الإسرائيلي اليهودي وذلك عبر (عملية موسى) التي كانت واحدة من عمليات تهريب اليهود الإثيوبيين لإسرائيل وهو ما كان سخطا،ً بل إعلاناً من جميع الشعب للرفض التام لما قامت به الحكومة. رغماً عن تكتم الحكومة السودانية على عملية تهريب اليهود الفلاشا لإسرائيل، إلا أن الصحف العالمية ووكالات الأنباء كانت أكثر شفافية في عرض الأمر للعالم. بحلول شهر يناير من العام 1985م أصبح النظام معزولاً تماماً من أي دعم خارجي خاصة وأن الحليف الأقوى للحكومة أمريكا كانت تعلم أن النظام قد استنفذ أغراضه تماماً كحليف من حلفائها.
بداية التحرك الفعلي لإسقاط النظام
في صبيحة يوم السادس والعشرون من مارس 1985 كانت شوارع أربع مدن سودانية تمور وكأنها مرجلاً يغلي فكانت المظاهرات في توقيت واحد في كل مدن الخرطوم ، الأبيض، ودمدني، وعطبرة. بيد أن أكثر التظاهرات التي أقضت مضاجع الحكومة يومها كانت تظاهرة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم التي طافت منطقة وسط الخرطوم مما جعلها مظاهرة بها من جموع الطلاب والحرفيين والتجار كذلك. حين أتت الساعة الثانية عشر ظهراً كانت مدن العاصمة الثلاث قد خرجت هي الأخرى في مواكب هادرة وهي تهتف بسقوط النظام.
جهاز أمن الدولة يتدخل
على الفور تم تشكيل غرفة عمليات من داخل جهاز أمن الدولة برئاسة اللواء عمر محمد الطيب الذي وجد نفسه فجأة في منصب الرجل الأول بالدولة بعد سفر الرئيس نميري لأمريكا. زائداً مهامه التي كانت في الأساس إدارة جهاز أمن الدولة. فكان وفق آلية جهاز أمن الدولة المتطورة من التحرك لقمع هذه التظاهرات والحد منها حتى لا تكون متعددة ومنتشرة بالقدر الذي يهدد النظام في استمراريته وهو ما كان حدوثاً في قابل الأيام. على الفور تم تحديد أسماء بعينها للاعتقال فكان من ضمنهم الدكتور الجزولي دفع الله نقيب الأطباء والأستاذ بكري عديل. تسارعت الأحداث عاصفة لتصل مرحلة التظاهرات غير المخطط لها في جميع أرجاء البلاد وهو ما أربك السلطات يومها وهي التي كانت تنوي الانتشار في مناطق محددة دون غيرها فكانت تظاهرات عفوية ينظمها المارة وجموع المواطنين دون تخطيط من أية جهة سياسية، وهو الشيء الذي جعلها تبدو وكأنها واحدة من مدهشات تلك الأيام. أتى يوم الثلاثاء الثاني من أبريل 1985م وهو اليوم الذي أعلن فيه إضراب ثلاث فئات عمالية هي الأكثر في تاريخ السودان. وهي نقابة المهن الصحية ونقابة عمال السكة الحديد والقضاء. وهو ما جعل هذا اليوم الثاني من أبريل يكتب نهاية حكم استمر ستة عشر عاماً والدليل على ذلك سارعت عدد من نقابات العمال والموظفين بإعلان الإضراب زائداً ما كان من أمر تلك الأحداث التي وصلت مرحلة أن حبس العالم أنفاسه في انتظار ما سيحدث لاحقاً وذلك عبر إذاعات كل من لندن ومونتي كارلو وراديو صوت أمريكا. في يوم الأربعاء الثالث من أبريل وعند الساعة العاشرة صباحاً تدفقت جموع المواطنين الذين كانوا في شوق لذهاب النظام نحو شوارع المدن وهو ما كان أمراً ذا ربكة لجهاز أمن الدولة الذي لم يجد بُداً من الانتظار عما ستسفر عنه الأحداث. فقوة جهاز أمن الدولة لم تكن بالقدر الكافي الذي يمكنها من التصدي لمظاهرات مثل هذه التي تفوق قدراته. كانت مسيرة هادرة عبرت بجلاء عن كل المكنون في الصدور تجاه حكومة لم تقم بواجبها نحو مواطنيها على الوجه الأكمل. فكانت جموع لمواطنين تبدأ من محطة السكة الحديد وهي تتجه نحو شارع القصر ومن جامعة الخرطوم على طول شارع الجامعة حتى مقر السلطة القضائية.
شخصيات في قلب الأحداث
برزت شخصيات داخل حراك أيام تظاهرات أبريل 1985م كان لها الدور الأكبر في نجاح المسعى الحتمي لها وهو نجاح الثورة نحو مبتغاها. الأول هو العميد عز الدين هريدي والذي تحرك سريعاً نحو وحدة جبل أولياء العسكرية التي كان قائدا لها تلك المنطقة العسكرية التي كان من الممكن أن تتحرك لتجهض أي نجاح للانتفاضة، فكان تصرفه السريع بعد اجتماع قادة الوحدات العسكرية نحو منطقة جبل أولياء العسكرية وهو السبب الذي جعله خارج حسابات الشخصيات التي تم اختيارها لدخول المجلس العسكري الانتقالي. الشخصية الثانية هي شخصية الفريق شرطة إبراهيم أحمد عبد الكريم الذي كان يعمل حينها مدير لشرطة ولاية الخرطوم (المعتمدية) والذي أصدر توجيهاته بعدم التعرض للمواطنين المتظاهرين وذلك بعد حادثتي إطلاق نار من عناصر مجهولة على المتظاهرين كان من نتيجتها استشهاد اثنين من المواطنين بأحياء الديوم والصحافة.
القوات المسلحة تتدخل
التزمت القوات المسلحة وطيلة أيام التظاهرات الحياد باعتبارها مؤسسة قومية التوجه. وهو ما جعلها تنأى عن المشاركة في عمليات قمع التظاهرات حتى أتى يوم الجمعة الموافق 5 أبريل 1985م فكان اجتماع قادة القوات المسلحة بالقيادة العامة مع الفريق عبد الرحمن حسن سوار الذهب القائد العام للجيش ووزير الدفاع لبحث كيفية تعامل قوات الشعب المسلحة مع الأوضاع السياسية المقبلة وهي أوضاع كانت معلومة حتى لصغار التلاميذ بالمدارس. كان اجتماع قادة الأسلحة بالانحياز للشعب في اجتماع استمر سبع ساعات كاملة للحسم فكانت الساعة الثالثة والنصف صباح يوم السبت السادس من أبريل هي لحظة إعلان انحياز الجيش للشعب.
عمر محمد الطيب والسعي لبقاء النظام
في الوقت الذي كانت فيه قيادة الجيش تسعى للخروج برأي موجد حول الانتفاضة الشعبية، كان اللواء عمر محمد الطيب مدير جهاز أمن الدولة أكثر رجال الرئيس نميري تشبثاً ببقاء النظام. فكان يعلم حقيقة اجتماع قادة القوات المسلحة بالقائد العام.. وهو ما جعله في تشاور مع مساعديه في أمر خطوات من شأنها تطيل عمر النظام حتى عودة الرئيس من أمريكا. ظلت جموع الشعب تنتظر المأمول حدوثه وهو يوم السبت الموافق 6 أبريل 1982م. وعند الساعة التاسعة وسبع دقائق أعلن الفريق عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب انحياز القوات المسلحة للشعب ونهاية عهد الرئيس نميري ومنظومة مايو. لتسمى الأحداث وتداعياتها الأخيرة بانتفاضة أبريل. فهل كانت ثورة ام انقلاب قادة كبار الضباط على نميري؟.
الانتباهة