“لا تستطيع الحكومة أن تحتفظ بنزاهتها إلا إذا كانت تحت سيطرة الشعب» .. توماس جيفرسون!
(1)
*في كتاب “اللا منتمي” يقول مؤلفه “كولن ويلسون” إن الشخص الذي ينطبق عليه العنوان هو العاقل الوحيد في عالم المجانين، لأنه يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهِ، ويشعر أن الاضطراب والفوضوية – في كثير من الأحيان – أعمق من النظام الذي يحكم حياة من حوله .. هو في نظر الآخرين مشكلة اجتماعية، لأنه يميل إلى التعبير عن قناعاته بمصطلحات وجودية لا علاقة لها بلغة الواقع، ولأنه شخص خارج على أطر المجتمع، غير منتمي لتقليده وأعرافه الملزمة، ولأنه يطمح إلى عالم مثالي غير موجود، ولأنه يتعذب بتفرده واختلافه عن بقية من حوله، ولأنه ينفر من المجتمع ولا يستطيع أن يخضع لشروطه ولا ينجح في أن يخضع المجتمع لشروطه هو .. اللا منتمي في عالمك قد يكون جارك غريب الأطوار الذي يتعامل وفقاً لمبادئ لا يكترث لها الآخرون .. أو زميلك الموظف المطحون الذي يجهد نفسه في الالتزام بمسارات أخلاقية ويحقق من خلال التزامه نتائج إيجابية من وجهة نظره، غير مرئية لبقية مجتمع يرفض منطقه .. وقد يكون اللا منتمي سياسياً ذو فكر إصلاحي غير مضبوط على موجة حزب أو تيار سياسي بعينه، أو مسئولاً تنفيذياً لا يزيف المنجزات ولا يتظاهر بالعمل ..!
(2)
الإنكار يعني ببساطة أن تهرب من مآلات المصائب بإنكار وقوعها .. يحدث هذا قبل أن تغضب .. ثم تفاوض .. ثم تكتئب .. ثم تتقبل الواقع وينتهي الأمر .. لكن الإنكار السياسي – شأنه شأن أي مشاعر سلطوية – لا يتعلق بمشاعر الحكومات بل بأقوالها التي تتنزل أفعالاً على رؤوس الشعوب .. ليس أنكى من جنون العظمة وهذيان الطموح عندما يصيبان شخصاً وجد نفسه في موقع سلطة ثم أدرك أن سلوكه المهني – وإن تطاول – سوف يبقى بمعزل عن مساءلة القانون .. السودان له من جنون العظمة و”مِحَنْ” الاستوزار نصيب .. الآن هنالك متواليتان تحكمان علاقة هذا الشعب بهذه الحكومة: متوالية هندسية تربط الاحتجاجات المتفاقمة بالإنكار الدائم، وأخرى عددية تربط المصائب التنفيذية بفجور التصريحات ..وهذه هي أول وأولى أسباب فقدان الثقة في نزاهة الجالسين، وفي جدوى الكراسي ..!
(3)
اقتصار الحكمة السياسية على أفواه الشيوخ فلسفة قديمة سقط منطقها وتهافتت نظرياتها في برلمانات ومجالس وزراء العالم الأول، ثم تلقفت ذلك التغيير حركات البعث والتجديد السياسي في بعض بلاد العالم الثالث، لكن هذا لا يقدح في منطقية التحفظات حول حداثة التجربة السياسية لبعض القادة وأخطارها المحدقة بمصائر الشعوب .. في المقابل – وفي ذات الوقت – ماتزال وسائل الإعلام في بلادنا تتناقل كل مرة ذات الأسماء لذات القيادات والرموز السياسية مطلع ظهور كل تشكيل وزاري جديد، ووتتبارى في الرصد والتعليق على “كوتشينة” التشكيل الوزاري المعتاد، الذي يكفي تقادم السنوات على اخفاقاته المتتالية – فوق رؤوسنا – لتَعتُّق أفخر أنواع النبيذ .. لا خلاص لأهل هذا البلد من صبيانية السياسة ومراهقة الاقتصاد، ولا نجاة لهم – بعد لطف الله – إلا بتجديد شباب الأحزاب .. كل آفاتنا السياسية تبدأ من “خطل” المؤسسة الحزبية .. وكلها تنتهي باستقامة عوجها ..!
هناك فرق – منى أبو زيد
صحيفة آخر لحظة