رسم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في كلمته أمام القمة العربية الـ28 خريطة طريق جديدة لاستنهاض الأمة العربية من جديد، ومحاولة تعزيز أركانها، ومداواة جراحها الغائرة، مشددًا على أهمية أن يعي العرب أهمية وخطورة المرحلة الراهنة، وضرورة الاتحاد فيما بينهم لمواجهة هذه التحديات بقوة وإرادة وعزيمة. وتضمن خطاب الملك سلمان، الذي حوى 372 كلمة فقط، عشرات الرسائل المباشرة وغير المباشرة إلى من يهمه الأمر، لعل أهمها الرسالة التي تؤكد أن الأمة العربية قادرة على النهوض من جديد، وقادرة أيضًا على مراجعة حساباتها، ومعرفة نقاط الضعف، ومن ثم تلافيها، ومعرفة نقاط القوة وتعزيزها.
وجاءت هذه الرسالة قبل ختام كلمة خادم الحرمين الشريفين أمام القمة، عندما دعا ـ يحفظه الله ـ إلى إعادة هيكلة جامعة الدول العربية، وإصلاحها، وتطويرها.. وهي دعوة ستجد إقبالاً كبيرًا وسريعًا من الدول العربية، التي استشعرت أهمية أن تكون كلمتهم مسموعة ومؤثرة بين الأمم من خلال الجامعة العربية، التي تحتاج إلى رؤية جديدة، وآلية عمل تواكب متطلبات المرحلة وتحدياتها.
وكانت فعاليات القمة العربية الـ28 قد بدأت ظُهر اليوم في مملكة الأردن، وتحديدًا في منطقة البحر الميت، ورأس وفد السعودية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – يحفظه الله -.
وما لفت الانتباه أن كلمة خادم الحرمين الشريفين جاءت شديدة التركيز، وتم اختيار كلماتها وعباراتها بكل عناية ودقة.. ولعل الرائع فيها أنها لم تغفل أي قضية محورية تهم الأمة العربية والإسلامية إلا وتحدثت فيها بعبارات مباشرة ومقتضبة، تشخّص العلاج المطلوب لكل قضية، وتؤكد في الوقت ذاته أنه لا مفرَّ من اتباع القرارات الشرعية.
وبقدر ترقُّب جميع الحاضرين في الجلسة الافتتاحية للقمة كلمة خادم الحرمين الشريفين بقدر ترقُّب وكالات الأنباء العالمية الكلمة ذاتها؛ وذلك من أجل بثها للعالم أجمع، موقنين بأن هذه الكلمة ستضع ملامح التعامل العربي مع المرحلة المقبلة. ولم يشأ خادم الحرمين الشريفين أن يطيل في كلمته بديباجة تقليدية، لا يتطلبها الوقت الراهن ولا الظروف الحالية التي تمر بها المنطقة؛ فأوجز وشخّص حال الأمة في صياغة مفردات مختلفة عما كان يتم تداوله في القمم العربية السابقة.
ولخصت كلمة خادم الحرمين الشريفين المبادئ والثوابت السعودية التي قامت عليها السعودية منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن ـ طيب الله ثراه ـ تجاه قضايا الأمة العربية، بالوقوف بجانب الإخوة والأشقاء، ودعمهم وقت الحاجة، دون التدخل في شؤون الغير، مشددة على نهج سياسة السعودية بأنه على رأس القضايا العربية التي تدعمها “القضية الفلسطينية”، التي آثر خادم الحرمين الشريفين أن يبدأ بها خطابه إلى رؤساء وقادة الدول العربية، عندما قال بعبارات مباشرة وصريحة: “يجب ألا تشغلنا الأحداث الجسيمة التي تمر بها منطقتنا عن تأكيدنا للعالم على مركزية القضية الفلسطينية لأمتنا، والسعي لإيجاد حل لها على أساس قرارات الشرعية الدولية، ومبادرة السلام العربية”. وفي هذه العبارات رسالة مهمة وعاجلة إلى من يهمه الأمر بأن الدول العربية – رغم الظروف والتحديات الراهنة – لم ولن تنسى قضيتها الرئيسة، قضية فلسطين المحتلة من قِبل الكيان اليهودي، مشددًا ـ يحفظه الله ـ على أن الحل العادل للقضية لن يكون إلا وفق قرارات الشرعية الدولية، ووفق مبادرة السلام التي تقدم بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز ـ يرحمه الله ـ في عام 2002، ونالت تأييد القادة العرب آنذاك.
وقد اعتبر المحللون حديث خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان عن القضية الفلسطينية إشارة إلى من يهمه الأمر بأن السعودية لن تغيّر ثوابتها أو سياستها تجاه هذه القضية مهما حدث، وأنها ستدعمها إلى أن يحقق الفلسطينيون تطلعاتهم وأحلامهم بإقامة دولتهم على التراب الفلسطيني، وتكون مدينة القدس الشريف عاصمة لها، مع رفض أي اقتراحات أو مبادرات تفسد الحلم الفلسطيني.
ولم تغب الجراح السورية عن المشهد؛ إذ عبَّر عنها خادم الحرمين الشريفين بكلمات قوية ومعبرة، شددت على أهمية إيجاد حل سريع، يوقف حمامات الدم وعمليات التشريد والقتل، التي يدفع ثمنها الشعب السوري، مطالبا ـ يحفظه الله ـ بضرورة التوصل إلى حل سياسي، ينهي هذه المأساة، ويحافظ على وحدة سوريا ومؤسساتها، وفقًا لإعلان جنيف (1) وقرار مجلس الأمن رقم (2254)، وهو ما نادت به السعودية مرارًا وتكرارًا منذ بدء الأزمة قبل خمس سنوات، وما زالت تنادي به، وتدعمه سياسيًّا من أجل رفع المعاناة عن الشعب السوري.
وكعادة السعودية دائمًا، فإنها ترجح وتدعم كفة السلام على كفة الحرب، وهذا ما شدد عليه خادم الحرمين الشريفين لدى تناوله الحرب في اليمن؛ إذ أعلن أهمية المحافظة على وحدة اليمن وتحقيق أمنه واستقراره، ودعا الجميع إلى تحقيق هذا الأمر على أرض الواقع، وفق المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ووفق نتائج الحوار الوطني اليمني، وقرار مجلس الأمن رقم (2216)، مطالبًا في الوقت نفسه بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية لمختلف المناطق اليمنية.
ويرى محللون أن هذه الدعوة تتضمن رسالة خفية إلى الحوثيين، وإلى إيران التي تدعمهم، وتشدد على أنه لا مفر من عودة الشرعية إلى هذا البلد الشقيق، وإبعاد الانقلابيين عن المشهد السياسي؛ حتى لا ينفذوا الأجندة التي وضعتها لهم طهران، وهي الرسالة التي دعا البعض طهران إلى استيعابها جيدًا إن أرادت أن تصلح علاقاتها مع الدول العربية بصفة عامة، ودول الخليج بصفة خاصة.
سبق