مِهن ومِحن (15)

[JUSTIFY]
مِهن ومِحن (15)

قلت في أول مقال لي في هذه السلسلة، إن المهنة الوحيدة التي لم ولن يكون من الوارد أن امتهنها هي قيادة حافلات الركاب في خطوط معلومة، لأنها مهنة شاقة ورتيبة وبالتالي مملة، وهناك مهنة يتمناها كثير من الشباب من الجنسين، ولكنني ما كنت سأعمل بها حتى لو كان البديل أن أكون رهينة لدى شبيحة فشار الأسد أو نوري المالكي، وهي «الضيافة الجوية»، ففي أحيان كثيرة أكون مسافرا بالطائرة وأحس برغبة شديدة في فتح النافذة والخروج منها بسبب الزهج والملل، وتنتابني تلك الرغبة العبثية وخاصة في الرحلات الطويلة، وبالمناسبة فإنني أدلع نفسي عند السفر جوا بتفادي الدرجة السياحية، إذا كانت الرحلة تستغرق أكثر من ساعتين، لأنني لو بقيت محشورا في تلك الدرجة لثلاث ساعات أو أكثر «يا قاتل يا مقتول»، وخاصة إذا كنت أجلس في كرسي طرفي وكان يجاورني شخص يكثر من ارتياد دورة المياه، ويتطلب مني ذلك أن أتكور مثل دجاجة مجمدة حتى يقفز صاحبنا فوق ساقيّ، أو كان قريبا مني أشخاص يثرثرون بأصوات مرتفعة ثم يطلقون ضحكات زلزالية.
ومن حقي أن أدلع نفسي لأنني لم أتمتع بالدلع حتى عندما كنت استحقه في مرحلتي الطفولة والصبا، فحياتي في تلكما المرحلتين كانت تحت بند «افعل/ لا تفعل»، أي خضعت مثل أبناء وبنات جيلي لتربية عسكرية، ولم يكن يمر أسبوع من دون أن أخضع لضربة «مطرح ما تسري تهري».. وكنت محروما حتى من الدلع اللفظي، ولم أسمع في طفولتي شخصا يناديني جوجو أو جاجا أو جعجع أو حتى فرفر، (ولهذا صرت أدلع نفسي لفظيا وأنادي نفسي «أبو الجعافر».. يعني أي جعفر على وجه الأرض أنا أبوه وولي أمره). في لحظات المرض أو الألم فقط كنت أحظى بدلع لفظي من أمي رحمها الله وقريباتي يتلخص في كلمة واحدة هي «يويوني» و«يو» في اللغة النوبية هي «الأم» وتلك الكلمة تعني حرفيا «حبيب ماما»، ولكنها كانت مستهلكة لأن نساء غير أمي كان من حقهن استخدامها في مخاطبتي ومخاطبة غيري الذين لم يكونوا أفضل مني حظا في هذا الصدد، أما الآباء ورجال العائلة عموما فقد كانوا يستكثرون علينا حتى «يويوني» تلك، وكان تدليع الأولاد (الذكور) على نحو خاص في نظرهم جريمة تربوية.
ولا يمكن أن أركب طائرة إلا مسلحا بكتاب ممتع، أو مجلتين كاملتي الدسم، ولكن وبعد نحو ساعة من التحليق أفقد القدرة على التحديق.. لأن مخي يتبرجل وعيني تتزغلل، ولا أفكر قط في مشاهدة أي شيء تعرضه أنظمة الفيديو في الطائرة، والابتعاد عن الدرجة السياحية يوفر للمسافر خيارات قراءة أفضل لأن درجتي رجال الأعمال والأولى في الطائرة تكون مزودة بمطبوعات محترمة، وما يساعدني على تدليع نفسي عند السفر بالطائرة ليس كون جيبي «مليان» بل «الوفاء»، فمنذ نحو عشرين سنة لا أتعامل إلا مع شركة طيران واحدة «معينة»، وكلما استخدمت طائراتها كلما منحتني نقاطا استطيع تحويلها إلى تذاكر سفر مجانية، ولأنني أقوم بسفرات قصيرة نحو عشرين مرة في السنة (بالدرجة السياحية) فإنني أجمع رصيدا كبيرا من النقاط استخدمها «ساعة العوزة» أي الرحلات الطويلة للارتقاء الطبقي فأسافر مجانا أحيانا على الدرجة الأولى أو بعد دفع «فرق سعر» زهيد.
والشاهد فيما سلف من كلام هو أنني أعجب كيف يسعى إنسان بكامل قواه العقلية للحصول على وظيفة «مضيف/ مضيفة جوي»، ليبقى معلقا في الهواء لعدة ساعات يوميا وعلى مدى عدة سنوات.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]

Exit mobile version