قليلون هم الرجال الذين أتيحت لهم فرصة بناء سلام متماسك على أنقاض حرب بدأوها بأنفسهم، ولعل #مارتن_ماكجينيس أحدهم.
توفي الخميس ماكجينيس، نائب رئيس وزراء #أيرلندا الشمالية الأسبق، وأحد القادة العسكريين للجيش التحريري الأيرلندي بعد صراع مع مرض نادر عن عمر ناهز 66 عاما.
فمن هذا الرجل الذي حارب البريطانيين عقوداً ثم أقام السلام وصافحهم؟
لا بد في البداية لفهم الأسباب التي أدت لاندلاع الحرب بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية، من شرح موقع الأخيرة الجغرافي، إذ تقع #أيرلندا_الشمالية ، شمال جزيرة أيرلندا، وتشاركها على تلك الجزيرة جمهورية أيرلندا المستقلة عن #المملكة_المتحدة.
في حين تضم #بريطانيا، الجزيرة الجارة ثلاث دول أخرى هي اسكتلندا وانجلترا وويلز، بينما تضم المملكة المتحدة كلا من #اسكتلندا و #انجلترا و#ويلز بالإضافة إلى أيرلندا الشمالية.
وقد كان البروتيستانت الموالون بطبيعة الحال للمملكة على مر التاريخ أفضل حالاً من جيرانهم الكاثوليك المعارضين للمملكة والمحاربين من أجل الانفصال عن المملكة المتحدة والانضمام لجمهورية أيرلندا.
من أسرة كاثوليكية
ولد مارتن ماكجينيس عام ١٩٥٠ ضمن أسرة كاثوليكية بسيطة تعيش بمدينة ديري في أيرلندا الشمالية، غير المرتبطة كثيراً بالحركة الجمهورية في المدينة، فلم تكن “ديري” مدينة فعالة في الحركة الانفصالية.
اضطر مارتن فيما بعد، ولظروف عائلية، إلى العمل في “ملحمة” ولم يكن قد تخطى الخامسة عشرة من عمره بعد، إلا أن أحداً لم يتوقع أن يصبح هذا الصبي “الجزار” أحد قادة ميليشيات الجيش التحريري الأيرلندي، الذي يسبب الأرق لأحد أقوى جيوش العالم.
شرارة ثورته
بدأت شرارة ثورته حين استفز مشهد النائب الأيرلندي الشمالي جيري فيت المغطى بالدماء بعد مشاحنة مع شرطة بيلفاست، مشاعر الصبي مارتن ماكجينيس، ما دفعه للالتحاق بالجيش التحريري الأيرلندي في الثامنة عشرة من عمره.
ليصبح بعد عامين فقط ثاني أهم رجل في التنظيم بمدينة ديري، وليتعرف بعدها على جيري أدامز، أبرز قادة الجيش.
شهدت ديري عام ١٩٧٢ وفاة ١٤ متظاهر سلمي على يد الجيش البريطاني في اإرلندا الشمالية. وأدت هذه الحادثة إلى تصعيد هجمات المقاومة من جانب مارتن ورفاقه، ليسطع نجمه ويصبح أحد المفاوضين في المحادثات السرية التي قامت بين حكومة المملكة المتحدة من جهة والانفصاليين المسلحين من جهة أخرى.
إلا أن تلك المفاوضات باءت بالفشل بعد أحداث عدة، أهمها انتشار الجيش البريطاني في ديري وبيلفاست عاصمة أيرلندا الشمالية، وقيام رئيس وزراء بريطانيا المحافظ ويليام هيث بتعليق أعمال الحكومة الأيرلندية الشمالية، ثم قتل ٢٦ جنديا بريطانيا في عام ١٩٧٢ في ديري فقط.
تجربة الحبس
سجن مارتن عام ١٩٧٣ بسبب تواجده بجوار سيارة محملة بالمتفجرات والأسلحة، لكن ماكجينيس رفض الاعتراف بارتكابه أي ذنب في المحكمة.
أفرج عنه لاحقاً، وتلا هذا الإفراج هجوم إرهابي على حانة في برمنغهام الإنجليزية، راح ضحيته ٢١ شابا إنجليزيا وإصابة ١٦٢ شخصا آخرين، ليتم القبض على مارتن مجدداً بتهمة انضمامه للجيش التحريري الأيرلندي.
الزواج والهدنة القصيرة
بعد الإفراج عنه تزوج ماكجينيس من بيرنديت كاننينج لينجبا لاحقاً أربعة أطفال وتدخل أيرلندا الشمالية بعدها في هدنة قصيرة، صرح خلالها ماكجينيس بنهاية عضويته في الجيش التحريري الأيرلندي واهتمامه بالعمل السياسي ليصبح أحد أهم قادة حزب شين فين الذراع السياسية للجيش التحريري الأيرلندي، إلا أن ماكجينيس لم ينصرف حقاً عن التنظيم العسكري وظل أحد قادته والمفاوضين عنه في الخفاء حتى يعود مجدداً للظهور كقائد عام للجيش التحريري الأيرلندي عام ١٩٧٧. ويقوم خلال الأعوام التالية بأكثر الهجمات العسكرية إيلاماً للجيش البريطاني في ديري وأيرلندا الشمالية بشكل عام، إضافة إلى تنفيذ اغتيالات عسكرية لقادة حركة الموالين، وأسر ضباط بريطانيين بعد توسيع الجيش التحريري الأيرلندي لأهدافه لتشمل أسر الضباط والمدنيين المعاونين للجيش البريطاني ورجال الأعمال المواليين.
مفاوضات سرية فاشلة وجولة من العنف
دخل ماكجينيس مجدداً في مفاوضات سرية مع إعداده عام ١٩٨١ أثناء حادثة الإضراب عن الطعام الشهيرة، إلا أنها باءت بالفشل. واستمر الحال على ما هو عليه خلال الثمانينات من القرن الماضي، ودخلت أيرلندا الشمالية في سلسلة من أحداث العنف بين الموالين للمملكة والجمهوريين، لم تنته إلا منتصف التسعينات، مع دخولها في جولة جديدة من المفاوضات مع المملكة المتحدة.
وانتهت المفاوضات بإعلان الجيش التحريري الأيرلندي بعدها نهاية العنف في أيرلندا الشمالية والدخول في محادثات جادة لحل الأزمة سياسياً يقودها مارتن ماكجينيس ورفيقه جيري ادامز.
اتفاقية بيلفاست
عام ١٩٩٨ وقعت بريطانيا مع أيرلندا الشمالية اتفاقية بيلفاست، التي سمحت بإقامة علاقات ثنائية جادة بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية. كانت من نتائج هذه الاتفاقية اعتذار الجيش التحريري الأيرلندي لأهالي الضحايا غير العسكريين الذين راحوا ضحية الاقتتال على مدار أكثر من ثلاثين عاما ومن ثم قاموا بتسليم السلاح عام ٢٠٠٥.
إلى السلطة مع عدو الماضي ثم الاستقالة
بعد عملية السلام التي قادها جيري ادامز ومارتن ماكجينيس، دخل حزب شين فين في حكومة مع الموالين، وأصبح مارتن ماكجينيس نائب رئيس وزراء أيرلندا الشمالية الموالي إيان بايسلي عام ٢٠٠٧، ليخرج بعدها ماكجينيس ويقول للأيرلنديين الشماليين إنه قادر وعدو الماضي إيان بايسلي أن يرسما مستقبلا أفضل سوياً حتى مع اختلاف وجهات نظرهم.
عام ٢٠١٢ قامت الملكة اليزيبث الثانية بزيارة بيلفاست في مشهد لم يكن يتوقعه أكثر الأيرلنديين الشماليين تفاؤلاً خلال القرن الماضي، لترتسم بعدها صورة مارتن ماكجينيس وهو يصافح الملكة بعد ثلاثين عاماً من الصراع.
استقال مارتن ماكجينيس في يناير هذا العام من منصب نائب رئيس الوزراء بعد رفض إيرلين فوستر (رئيسة وزراء أيرلندا الشمالية من الحزب الديمقراطي الاتحادي) الاستقالة بعد فضيحة مالية طالتها، ليتوارى بعدها عن المشهد السياسي خاصة مع اشتداد مرضه النادر حتى وفاته في ٢١ مارس ٢٠١٧.
عنه، قال جيري أدامز رئيس حزب شين فين: “إن مارتين لم يذهب يوماً للحرب، بل الحرب جاءت إليه، إلى بلده ومدينته وشوارعه”.
العربية نت