جمال سلطان .. رسالة غاضبة من السودان

هذه الرسالة وصلتني من كاتبة وأكاديمية سودانية ، تعليقا على ما نشرته في هذه الزاوية أول أمس عن “الإعلام العابث يفجر العلاقات المصرية السودانية” ، وجدت من الأهمية أن أنشرها هنا بنصها الكامل ، تقول :

الأستاذ .. : جمال سلطان ، تحية طيبة وبعد ، أرجو فقط أن تعرفني باسمي الذي ذيلت به هذه الرسالة.
حسنا فعلت بمقالك المنشور في جريدة “المصريون” الغراء عن دور الإعلام المصري في تخريب العلاقات المصرية السودانية بتأريخ 21 مارس 2017.
لعل من نافلة القول التذكير بخصوصية هذه العلاقة الممتدة لآلاف السنين، و التي تظهر في ملايين المواطنين المتحركين بين البلدين، و الآف الأسر الممتدة بينهما.
إن خطورة الإعلام المصري خصوصا تجاوزت الخطوط الحمراء لحدود المصائب الوشيكة! في تقديري المتواضع أن مصر يمكن أن تفيق يوما ما من كبوتها العابرة بإذن الله لتجد أن عليها إصلاح أضرار بالغة سببتها – و ما زالت تسببها – السيركهات المسائية اليومية المسماة مجازا: برامج التوك شو!

للأسف الشديد, لم يكد بلد عربي يسلم من أذي هذه السيركهات الإعلامية من المغرب للبحرين تقريبا! لكني سأتناول هنا بالتحديد السودان و خطورة الوضع الشديدة هنالك اتجاه مصر لأني من السودان.

أولا: لا تخطئ أي عين مراقبة أن هنالك حالة من العداوة الشديدة تجاه مصر في عقول و قلوب الشباب السوداني (لا أريد أن أقول كره!). و للتذكير فهذه الفئة تمثل أكثر من 50% من سكان السودان و تشكل بوضوح مستقبل البلاد. و هو تحول مدهش من جيل الشباب قبل عقود قليلة فقط التي كانت تكن محبة و ود كبيرين لكل ما هو مصري. في تقديري أن مصر لم تقرأ بصورة صحيحة وقوف الشباب السوداني كاملا تقريبا خلف الجزائر ضد مصر في المباراة الشهيرة، علي الرغم من أن مصر هي التي اختارت السودان لهذه المباراة. إن عوامل مهمة أهمها مثلث حلايب (و التي صارت تتشكل كقضية وجدان و روح للسودانيين)، و التعامل الأمني المخابراتي لمصر اتجاه كل ما هو سوداني، و الإعلام المصري، و الانسحاب المصري الخاطئ من الساحة السودانية عقب وصول مجموعة البشير-الترابي للسلطة، هي بعض العوامل المباشرة لهذه العداوة. هذه الأجيال نشأت لتري و تسمع عن مصر كل ما هو غير جميل! تري في مصر ذلك المحتل الغاصب لأرضها، الذي ينظر للسودانيين باستخفاف و استعلاء و يمثلهم بعثمان البواب، و يعتبرهم مجرد حديقة خلفية تلجأ إليها فقط لتحقيق مصالحها. و بأمانة فإن النخب الإسلامية الحاكمة في السودان ساهمت بغشومية في تأجيج هذه المشاعر السلبية تجاه موقف نظام مبارك المتحفظ نحوها ، بل و لدرجة محاولة اغتياله في أديس أبابا في العام 1995 ، و هي الأحداث التي تلتها دخول القوات المسلحة المصرية لحلايب و بسط سيطرتها على المنطقة (لأول مرة في التأريخ).

ثانيا: العلاقات المصرية-السودانية – وللمفاجأة – لم تقم يوما علي أسس استراتيجية واضحة، فقط مجموعة من العواطف و الكلمات المنتقاة بعناية. لم تكن أبدا هنالك مشاريع ضخمة مشتركة أو حتي استثمارات حقيقية. و حتي نهر النيل، كان مصدر خلاف أكثر من كونه رابطا مشتركا قويا ؛ و بين يديك قضية سد النهضة و التي في تقديري شكل موقف السودان فيها عدة عوامل بالتأكيد من ضمنها إحساس السودانيين بضرورة إرسال رسالة قوية لمصر: نحن لسنا أتباعا لكم!

ثالثا: الإعلام! و ما أدراك ما إعلام مصر. عشية مباراة مصر و الجزائر جلس إعلاميان مصريان – من أصحاب الرضاء و الحظوة اليوم – و أجريا بعض الاتصالات ببعض وجوه المجتمع الفني المصري المتواجدة لحضور تلك المباراة بالخرطوم يومها. في تقديري، هذه الساعات يجب أن تدرس في مدارس السياسة و الإعلام معا عن كيف يمكن أن تهدم مجهود مائة سنة في ساعة! لا أعتقد أن هذه الساعات يمكن أن تمحي أبدا من ذاكرة السودانيين بما حملت من إساءات و استخفاف بالسودان و أهله لم يسمعها السودانيون طيلة تاريخهم! خطورة الإعلام المصري اليوم تتعدي حدود المناوشات الإعلامية كثيرا لعدة نقاط مقلقة: أنه تجاوز حدود التسييس لصالح الترضيات. بمعني أن مسألة التوجيهات المسيسة للإعلاميين تجاوزها الزمن لصالح تبرع هؤلاء الإعلاميين من أنفسهم بمعارك خطيرة الغرض منها فقط ترضية أصحاب التوجيهات! و كذلك طبيعة الإعلام المصري اليوم توضح وجود انقسامات خطيرة في السلطة المصرية و ووجود مراكز قوي متصارعة و بشدة. إعلام يمثل مصالح و مجموعات ضغط يمكن أن يسبب مشاكل خطيرة لمصالح البلد، ببساطة لأنه غير عابئ أصلا بها، بل بمصالح من يمثله من مراكز القوي. كذلك طبيعة هذا الإعلام تنقل رسالة هامة للمحيط الإقليمي المصري بالذات: مصر لم يعد لديها أدوات حقيقية لمعالجة و مقابلة الأزمات، فصارت تلجأ فقط كما معلم القهوة لألسنة و بلطجة صبيانه للحفاظ علي مصالحه. و لذلك، صار كل من يتابع الإعلام المصري موقنا بأنه رسائل حقيقية من جهات مؤثرة، أو قل يعكس الحالة المزاجية لهذه الجهات المؤثرة.

رابعا: يبدو بوضوح أن مصر عاتبة (و ربما قلقة) علي مواقف السودان في اليمن و ليبيا و سوريا كأمثلة و تقاربها من الخليج و محاولة تقديم السودان لنفسه كبديل قوي للمواقف المترددة لمصر! كان اللجوء للقوات السودانية في اليمن عصيا علي مصر، و هي محقة في تقديري. لكن القاعدة بسيطة: الفراغ الذي تتركه سيملؤه غيرك! في ليبيا كان السودان أحد أكبر المتضررين من مغامرات القذافي، و لا يمكننا تصور قذافي آخر باسم جديد هو حفتر. ماذا تفعل مصر في جنوب السودان حاليا و ما هو الغرض من مساعدة الرئيس سلفاكير هنالك (كما يشتكي السودان و المعارضة في جنوب السودان؟). في المجمل، لا يمكنك أن تتخذ مواقف خاطئة ثم تستبيح أعراض الناس فقط لأنهم لم يوافقوك عليها!

و يبقي السؤال: من المستفيد و من المتضرر من تخريب هذه العلاقات؟
في تقديري: لا مستفيد! لكن الضرر أكبر علي مصر. آنيا: الميزان التجاري–المتواضع أمام ما هو متوقع- بين البلدين و كمثال يميل بشدة لصالح مصر! مصر هي مكان العلاج الأول لآلاف السودانيين سنويا و هي المقصد الأول للسياحة و العطلات كذلك (تكفي زيارة سريعة لشارع جامعة الدول العربية و المناطق المحيطة به للتأكد من ذلك). مستقبلا: مزيد من العداوة لمصر من أجيال سودانية قادمة.
في الحقيقة ما يحدث اليوم في الإعلام المصري هو من قبيل: يخربون بيوتهم بأيديهم.
د. ريم شرف الدين ـ سودانية
انتهت الرسالة ، وأعتقد أنها وافية تماما بحجم الخطر الآني والمستقبلي ، ولا تحتاج إلى مزيد تعقيب.

الكاتب المصري: جمال سلطان
رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير صحيفة المصريون

Exit mobile version