احتاج الأربعيني السوداني عبدالله المهدي إلى ثلاثين قارورة من المحاليل الوريدية، بعد ما فقد جسده 90% من السوائل، إثر إصابته بإسهال مائي حاد عرض حياته للخطر، حسبما ذكر التقرير الطبي الخاص بحالته، والصادر مطلع فبراير/شباط الماضي، من مستشفى المناطق الحارة في ضاحية أم درمان غرب الخرطوم.
يعد مهدي واحداً من بين 500 إصابة بالإسهالات المائية، توفي منهم 12 حالة، وفقاً لحصر قامت به لجنة أطباء السودان المركزية، (كيان موازٍ لاتحاد الأطباء)، في ولايات الخرطوم والبحر الأحمر والقضارف شرقى البلاد، نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، عبر رصد ميداني لحالات التردد اليومي للمصابين بالإسهالات المائية على المشافي بالمناطق المصابة.
ولم تكن تلك الموجة الوبائية هي الأولى من نوعها، إذ سبقتها أخرى حصدت أرواح 57 سودانياً وسودانية من إجمالي3 آلاف و141 مصاباً بمرض الإسهال المائي الحاد، في ولايات النيل الأزرق وسنار وكسلا ونهر النيل، وفق ما ذكره وزير الصحة السوداني بحر ادريس أبو قردة في سبتمبر/أيلول الماضي.
وأثارت تلك الموجة من مرض الإسهال المائي ذعراً وهلعاً وسط المواطنين في مناطق شمال وشرق ولاية الخرطوم، ولا سيما أن أسباب الوباء كانت مجهولة، غير أن كل المؤشرات كانت تشير إلى تلوث مياه الشرب، إذ حذرت وزارة الصحة المواطنين من شرب وتناول المياه والأطعمة الملوثة، وهو ما دفع ربة المنزل فاطمة أحمد شقيقة أحد المتوفين بسبب المرض، إلى غلي المياه واستخدام الفلاتر المنزلية هي وجيرانها في أم درمان.
تقول فاطمة أحمد “ما أن علمنا بانتشار حالات الإسهال حتى عكفنا على غلي الماء ووضع عصير الليمون على كل مياه الشرب”، غير أن تلك الاحترازات لم تمنع إصابة شقيقها محمد بالإسهال الحاد الذي تسبب في وفاته بعد مرور أقل من 12 ساعة من إصابته به.
نتائج تحليل عينة من مياه الشرب في الخرطوم
من أجل تحديد سبب انتشار مرض الإسهال المائي والكشف عن علاقة الأمر بمياه الشرب، لجأت معدة التحقيق إلى إجراء فحص عينة من المياه التي تصل إلى المستهلكين عبر شبكة المياه مباشرة من محطة الضخ، وتحديداً في المناطق التي انتشر فيها المرض بالخرطوم، ووضعت معدة التحقيق العينة في قارورة معقمة، سلمتها قبل مضي 24 ساعة من أخذ العينة من المصدر، إلى فنيي المعمل المركزي بضاحية بحري شمال العاصمة (خاص)، وكشفت نتيجة التحليل عن احتواء العينة على ثلاثة أنواع من البكتيريا أخطرها coliform (الكوليفورم) التي ظهرت بنسبة 2400 في كل ml 100، في حين يفترض عدم وجودها تماما، كما ظهرت بكتيريا thrmo toierant التي يفترض عدم وجودها أيضاً، بالإضافة إلى بكتيريا E.coli (الإيكولاي) التي يفترض عدم وجودها، حسب إفادة اختصاصية الأمراض الباطنية الطبيبة تيسير كمال، والتي قدمت قراءة لنتائج العينة التي تم الحصول عليها من الخط الواصل للمنازل شمال العاصمة السودانية قائلة لـ”العربي الجديد”، “الفحص البكتريولوجي للمياه يتم من أجل تقدير أعداد البكتريا، خاصة مجموعة القولون، وكذلك لاختبار صلاحية العينة لأغراض الشرب وفي حالة اكتشاف وجود مجموعة بكتيريا القولون في أي مصدر مائي يدل ذلك على تلوثه إما بفعل مياه الصرف الصحي، أو الفضلات البشرية”.
وتعد بكتيريا الإيكولاي، التي احتوت عليها العينة شديدة الخطورة، إذ تتسبب في تقلصات وإسهال مصحوب بدم في بعض الحالات، بحسب الطبيبة تيسير كمال، والتي أشارت إلى تسبب تلك البكتيريا في آلام حادة في البطن والغثيان وأحيانا يصل الأمر إلى التقيؤ وارتفاع في درجات حرارة المصابين كما أنها تتسبب في التهابات المسالك البولية والفشل أو القصور الكلوي، وهو ما جرى للثلاثينية إشراقة أحمد والتي تقطن إحدى القرى الواقعة شمال العاصمة الخرطوم، إذ عانت الشهر الماضي من جفاف حاد نتج عن إصابتها بالإسهال المائي أدى إلى فقدان جسدها نسبة عالية من السوائل، وعند تعويضها وفق التشخيص الطبي بواسطة المحاليل الوردية أدى ذلك إلى ارتفاع نسبة البولينا في الدم.
تتابع إشراقة شرح حالتها الصحية قائلة لـ”العربي الجديد”:”تطور المرض حتى أصبحت أخضع إلى جلسات غسل الكُليتين”، وبحسب ما وثقته الاختصاصية تيسير أثناء عملها في مستشفى بحري الحكومي، فإن حالات التهاب المسالك البولية تزايدت مؤخرا بصورة ملحوظة.
وبالرغم من إجراء تحليل عينة مياه الشرب الذي قامت به معدة التحقيق في عام 2017، إلا أن النتائج التي خلصت لها حول تلوث مياه الشرب الواصلة إلى البيوت في المناطق المصابة بالإسهال المائي، تتشابه مع ما جاء في بحث مقدم من أجل نيل درجة الماجستير في العلوم البيئية أعدته الباحثة نوال مدني إبراهيم محمد سالة، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2008، إذ خلص البحث المعنون بـ”خصائص مياه الشرب بمنطقة أم درمان ودور المجتمع في المحافظة عليها”، إلى أن بعض عينات المياه المأخوذة من شبكات التوزيع غير مطابقة للمواصفات العالمية والسودانية لمياه الشرب من الناحية الأحيائية، وبلغت أعلى نسبة من بكتيريا الكلوليفورم في مناطق الريف ml 100 / Colony 480 وكانت أعلى نسبة من بكتيريا العدد الكلي في منطقة كرري (Uncountable colony / 5 ml).
وبحسب البحث السابق، فإن الأمراض المنتشرة بمنطقة الدراسة هي الملاريا بنسبة 50 % والإسهالات 36% وأمراض العيون 13% وهي أمراض مرتبطة بالمياه، وفقا لما كشفته ووثقته الباحثة نوال سالة.
ماذا يجري في محطة مياه بحري؟
يكشف الفحص المخبري الذي قامت به معدة التحقيق، عن احتواء العينة على مجموعتين من بكتريا الكلوليفورم والتي توجد بصورة طبيعية في الجو، لكن بمجرد ظهورها في “مزرعة التحليل” فإنها تعد علامة على تلوث العينة وإمكانية تسببها في الإسهالات والأمراض المعوية، وفقا لما توضحه فنية المعمل محاسن عبد الحميد، والتي دعت إلى فحص محطات المياه للتأكد من خلوها من أي ملوثات.
تعد ضاحية بحري شمال، من أبرز المناطق التي ظهر فيها مرض الإسهال المائي، ومن أجل التأكد من فعالية نظام التعقيم في محطة مياه بحري شمال التي تبعد من الخرطوم بنحو 50 كيلومتراً (تزود 1.184 مليون شخص يقطنون في تلك المنطقة بالمياه)، توجهت معدة التحقيق إلى المحطة، التي دافع تقني المعمل الخاص بها، صديق عبدالله، عن الماء الذي تضخه إلى الشبكة السودانية، مؤكدا أن مياهها تخلو تماما من بكتيريا الكوليفورم، ولدى عرض نتيجة فحص العينة عليه عزا احتواءها على تلك البكتريا إلى الكسور في خطوط المياه الواصلة إلى الأحياء نتيجة تهالكها وضغط المياه داخل الشبكة ما يؤدي إلى تلوث خارجي للمياه.
يوافق الرأي السابق، ما يعتقده الخبير في مجال المياه، عباس محمد، الذي كان يعمل في هيئة مياه ولاية الخرطوم، إذ لديه قناعة ناتجة عن سنين عمله كما يقول، “بأن توصيلات المياه القديمة والمتهالكة للمنازل تعد السبب الرئيسي في تلوث مياه الخرطوم، إذ لا تحتمل ضغط المياه المارة بها ما يؤدي إلى انفجارات في الخطوط القديمة، تتسبب في خلط المياه بالتراب بالإضافة إلى الصدأ الموجود في الأنابيب القديمة والمتهالكة الموصلة للبيوت”.
وتنفجر شبكات توزيع المياه في الخرطوم كثيراً خاصة في فصلي الشتاء 57% والخريف 33% بسبب ضغط المياه في الشبكات القديمة، وفقاً لما جاء في دراسة الباحثة نوال سالة.
نسبة الكلور صفر
تستهدف محطة مياه بحري شمال، جميع الريف الشمالي من شمال بحري وحتى حدود ولاية الخرطوم الشمالية، وتبلغ الطاقة الإنتاجية للمحطة 300 ألف متر مكعب في اليوم، ويدون معمل المحطة، نسبة الكلور في المياه التي جرت تنقيتها في دفتر خاص بصورة يومية، حسبما وثقت معدة التحقيق عبر الاطلاع عليه، غير أن قراءة نسبة الكلور في بعض الأحيان تم تقديرها بـ”صفر” وهو ما تفسره المهندسة الكيمائية أمل علي، بأنه قد يرجع إلى أعطال في جهاز ضخ الكلور أو نفاد المادة الفعالة.
وتلزم الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس، محطات المياه بإجراء فحص لنسبة الكلور المتبقية بعد عملية التحلية في خطوط الإنتاج، وينبغي أن تصل هذه النسبة إلى 5.%، وفق ما أوضح فني العمل صديق عبدالله، قائلا “هذه النسبة قادرة على قتل جميع الميكروبات”، مضيفا بثقة:”مياهنا خالية من البكتريا وغير ملوثة، أنا مسؤول عن المياه التي تخرج من المحطة ومتأكد من سلامتها ونقوم بإجراء فحص يومي لنسبة الكلور ونقوم بعمل مزرعة بيولوجية للبكتيريا. لكن المياه التي تصل إلى بيت المستهلك لا تدخل ضمن نطاق مسؤولياتنا”.
دفاع مهندس التشغيل
يعمل نظام التعقيم في محطة مياه بحري شمال، عبر غاز الكلورين بالإضافة إلى مسحوق الكلور الذي يستخدم في حالة الطوارئ أو عند إصابة جهاز الكلورين بأي أعطال، وتمر المياه في البداية بما يعرف بـ”المروقات” التي يجري فيها ما يعرف بمرحلة الخلط السريع وتتم أثناءها إضافة مادة بولي الألمونيوم كلورايد لتسهيل عملية التنقية، وبعدها تتم عملية الخلط البطىء الهيدروليكي والميكانيكي، ثم تدخل المياه إلى المرسبات لفصل الطمي بواسطة الجاذبية، وبعدها يعاد الطمي إلى النيل وتدخل المياه النقية إلى فلاتر رملية تعد آخر مرحلة لتنقية المياه، ومنها إلى الخزانات ليضاف إليها الكلور للتعقيم ثم تضخ إلى الشبكة، وفقاً لما قاله المهندس هيثم حسب الرسول، مهندس تشغيل محطة مياه بحري شمال، والذي دافع عن نظام التنقية في المحطة، قائلا إنه لا يسمح بنفاذ البكتيريا عبر طبقات الرمل.
ويرى حسب الرسول، أنه لا يمكن اعتبار مياه الشرب سبباً في التلوث ما لم يصب 50% من السكان بمرض الإسهال المائي، معتبر أن الوباء الذي اجتاح المنطقة حدث نتيجة ممارسات خاطئة من السكان في نظامهم الصحي، على حد قوله.
اعتراف السلطات الصحية
على الرغم من نفي العاملين في محطة مياه بحري، وجود أي علاقة بين مياه الشرب وانتشار موجات الإسهال المائي المتكررة على مدار سنوات، إلا أن وزيرة الدولة بوزارة الصحة سمية إدريس، اعترفت في منبر عام بولاية الخرطوم بانتشار وباء الإسهال المائي في ولايتي الخرطوم والبحر الأحمر، وقالت الوزيرة “حكومة ولاية الخرطوم شرعت في وضع إجراءات وقائية مكثفة للحد من انتشار المرض عبر تنظيم حملات للرقابة على الأطعمة المكشوفة والمفروشة على الطرقات والتأكد من سلامة مياه الشرب”.
وشكّل المجلس التشريعي في السودان لجنة مكونة من البرلمان ووزارة الصحة لحصر المرض ومعرفة الأسباب التي أدت إلى ظهور حالات الإسهال، ووفق رئيس لجنة الصحة بالبرلمان امتثال الريح، فإن اللجنة نظمت زيارة إلى محطة مياه بحري شمال للاطمئنان على عدم تلوثها والوقوف على نظام التعقيم فيها، وأكدت النائبة امتثال لـ”العربي الجديد” أن اللجنة الفنية اطمأنت إلى خلو المياه من البكتيريا من خلال متابعتها للقراءات الخاصة بتحليل معملي للبكتيريا تم إجراؤه في معمل المحطة، والذي يعمل به الفني صديق عبدالله، والذي يرى أن استمرار المواطنين في غلي المياه يفقدها العديد من العناصر المهمة إذ لا يحتوي الماء المغلي، إلا على القليل من المعادن الهامة لوظائف الجسم، غير أن الستيني مبارك عمر، لم يعد يصدق أي تصريحات بأن مياه الشرب غير ملوثة وأنه لا يوجد خطر من تناولها، إذ فقد اثنين من أصدقائه بسبب الإسهال المائي، ما جعله يستمر في غلي مياه الشرب، الأمر الذي رفع فاتورة استهلاكه للغاز، لكنه أبقى على حياة عائلته كما يقول.
العربي الجديد