-1- بعد فراغي من إمتحانات الشهادة الإبتدائية ، في الثمانينات كنت حينها يافعاً غضاً ، فكرت في استغلال العطلة الصيفية الطويلة في مشروع يدُر دخلاً ، و لابد له من رأس مال ، فجمعت ما كان يتساقط من نخيلنا من بلح وبعته ، وهو ما يُطلق عليه ( تمر الهبوب ) ، وهو التمر الذي يتساقط جنيّاً من النخيل مع إشتداد الرياح أو الهبوب ، أو وصول الثمار للنضوج قبل القطف ، كان موسماً ممتعاً يُشبع جيوبنا بالنقود ، ودواخلنا بالسرور ، فنذهب بها إلى سوق قريتنا الوادعة تنقسي ( سوق الأحد ) ونشتري ما طاب لنا من الحلوى و التُرمس والتسالي وما يُسمى ( الجُرُم ) .
و ( سوق الأحد ) ظل عالقاً في ذاكرتي لايبرحها ، ارتبط بهذا الإسم لأنه كان يقام يوم ( الأحد ) من كل أسبوع ، كُنا نعد العُدة طوال الأسبوع ونحن نتلهف إليه ، كان سوقاً منظماً بشكل رائع ، محلاته متراصة على شكل مستطيل مع وجود مداخل ومخارج بينها للسوق ، تتوسطه ساحة تظللها أشجار ( الجِميّز ) المتشابكة الضخمة ، في مشهدٍ خلاب ساحر .
-2-
كانت أحلامنا صغيرة كل ما نكتنزه من ( قروش ) نصرفها في السوق .
حاولت أن أصنع تغييراً ُمن فرط إعجابي بتجار السوق ، كانت كل أمنياتي أن أصبح مثلهم ، رغم تفوقي الدراسي ، كنت أنظر لتجار السوق بإعجاب مفرط ، حتى خلقت علاقة صداقة معهم رغم صغر سني ، ويرجع ذلك لعلاقتهم الوطيدة مع والدي ( ناظر ) المدرسة ، الذي كانت له مكانته ببلدتنا المعطاءة ، حين كان للتعليم والمعلم هيبته في المجتمع !
قررت أن أبدأ تجارتي في هذه العطلة ( بطبلية ) صغيرة في حيّنا ( العيساب ) فما أن مرت الأيام حتى نَمت وتوسعت فطورتها الى متجرِ أصبح قبلة للأحياء المجاورة ، كُنت أزوده بالبضاعة ( بالآجل ) من كبار تجار قريتنا ، وما أن أبيعها أقوم فوراً بالسداد .
لاحظ والدي أن التجارة أصبحت شاغلاً لي وأنا لم أكمل تعليمي بعد ، فأرسلني لمواصلة دراستي عند جديّ واخوالي ببورتسودان ، قمت بتصفية متجري بالحيّ في أسى وحزن ، وأنا أفارق ما ألفت ، وانقطعت علاقتي منذ ذاك الحين ( بالتجارة ) وتغيرت أفكاري واهتماماتي .
-3-
الأسبوع الماضي استضفت خبير التنمية البشرية والمستشار عبر الثقافات ، الذي كان في زيارة إلى السودان ، الدكتور الاردني زياد صبري جوابرة ، في برنامجي الاسبوعي ( علمتني الحياة ) باذاعة نور ، حقيقة الرجل شدني إليه عندما تحدث عن ( عبودية الوظيفة ) وإحداث التغيير بالانطلاق نحو آفاق العمل الحر الذي بمثابة فضاء دون سقف أو قيود .
وأضاف لماذا ينتظر الشباب الوظائف ويجلسون لسنوات ( عطالى ) دون أن يبادروا ويخلقوا فرصاً في العمل الحر ، كانت لأفكاره تحفيزاً عميقاً للمستمعين وأنا منهم .
كيف لا و ( تسعة أعشار الرزق في التجارة ) ونحن نكابد على عُشرٍ واحد !
-4-
كلما سمعت أو قرأت قصة الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف وكان من المهاجرين ، الذين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الخزرجي ، رضي الله عنهما ، وكان لسعد زوجتان ، فقال: يا أخي: إن شئت طلقت إحدى زوجتي فتزوجها بعد أن تحل ، وإن شئت وهبتك نصف مالي !
قال عبدالرحمن بن عوف ( بارك الله لك في زوجك ومالك ، ولكن دلني على السوق ) !
كلما سمعت ذلك ينتابني شعور قوي في العودة مع تطوير هوايتي ( القديمة )
خلق عبدالرحمن بن عوف الفُرص ، ولم يرض أن يعيش عالة على غيره !
فلزم السوق يبيع ويشتري بجد وكد وصدق وإخلاص فلم تمض شهور حتى صار معه مالا ، ولم تمض سنوات حتى صارت معه ثروة ، ثم أصبح من أكثر الصحابة ثراء ، و أكثرهم صدقة وعطاءً ! وحين سئل عن سر ثرائه قال : ( ما رددت ربحاً قط ) !
فهو سريع البيع ( تدوير رأس المال ) يقنع بالربح اليسير فيبيع أكثر من غيره بأضعاف .
هكذا يكون عبدالرحمن ابن عوف رائداً من رواد التغيير وعلم الإدارة .
وأسلوبه ينطبق مع نظرية ( إكونومى أف سكيل ) الربح القليل المستمر خير من الغلو والإنتظار الحرج ، تراثنا و تاريخنا غني بما ينفع الناس فكيف نوظفه في تطوير ذاتنا !
-5-
قبل يو مين طرحت سؤالاً على أصدقائي بصفحتي بفيسبوك بعنوان ( من يدلنيّ على السوق ? ) ، فتلقيت بعده اتصال هاتفي ( تنموياً ) من أحد أصدقائي الأعزاء ( إستاد جامعي ) يلومني ، أن كيف أفكر في الذهاب إلى السوق ( التقليدي ) ، وأنت تمتلك نقاط قوة ، لم أكن أراها ، عددها لي ، تصلح أن تسوقها بذكاء فتجمع ما بين الحُسنيين ، البقاء فيما تهوى من إبداع ، و تجارة الكترونية غير تقليدية .
ولكن خلفيتي ( القديمة ) عادت تساورني ، بعد انقطاع لسنوات طوال !
وعلى كلٌٍ ( من يدُلني إلى السوق )
بقلم : محمد الطاهر العيسابي
motahir222@hotmail.com