صلاحيات جهاز الأمن تفجِّر الخلافات التعديلات الدستورية.. السلطة الثالثة على الخط

توسَّعت دائرة الجدل حول ملحق التعديلات الدستورية الأخيرة، في الجزئية الخاصة بصلاحيات جهاز الأمن الوطني والمخابرات، لا سيما أحقيته في الاعتقال والتحقيق، والمطالبة بإصلاحه منهجاً ووظيفة وبنية.

التعديلات المودعة حالياً في طاولة البرلمان، ومحل تباحث اللجنة البرلمانية الطارئة، بقيادة نائب رئيس البرلمان، بدرية سليمان، باتت محل جدال جديد مع دخول السلطة القضائية التي طالبت على لسان نائب رئيسها عبد المجيد إدريس، خلال اجتماع اللجنة الطارئة للتعديلات الدستورية، بإخضاع سلطات جهاز الأمن والمخابرات فيما يتعلق بالاعتقال والتوقيف لرقابتها المباشرة. وبرّر نائب رئيس القضاء هذه المطالبة للحيلولة دون فعل الأمن ما يشاء له دون تمكين المعتقل من الاتصال بالقضاء، فضلاً عن الحرص على التأكد من صحة الإجراء، منوِّهاً لرفض السلطة القضائية للاعتقال التعسفي دون دواعٍ موضوعية.

تجئ مطالبة السلطة القضائية بوضع جهاز الأمن تحت رقابتها مقروناً برفض الأمن لحصر مهام الجهاز في جمع المعلومات وتحليلها، وذلك بعد أيام من مطالبة قادة بارزين في الجهاز بمنحهم مزيداً من الصلاحيات، بحسبان أن المرحلة المقبلة كلها تحديات تتطلب أن يكون للجهاز قوة وأسنان.

مشكلة قديمة
مما لا شك فيه أن قضية المطالبة بتغيير جهاز الأمن منهجاً ووظيفة وبنية من القضايا القديمة التي تدفع بها المعارضة باستمرار، ولكنها ظلت عالقة تنتظر معالجة موضوعية ليس في حقبة الإنقاذ وحسب وإنما تعود للحكم العسكري الأول الذي قاده الفريق إبراهيم عبود، ومروراً بفترة مايو. لكن تعثراً واضحاً صاحب المعالجة الجذرية لها طوال الحقب الماضية بما فيها الديمقراطية وصولاً للجدل الدائر الآن حولها.

وتخلص رؤية المعارضة التي تتطابق لحد كبير مع مخرجات الحوار الوطني بحصر مهمة جهاز الأمن في العمل على حماية أمن البلاد من الداخل وحماية مؤسسات الدولة من الاختراق وتسريب المعلومات وكشف التجسُّس وذلك بالتنسيق مع مؤسسات الدولة، على أن يخضع لمختلف وسائل الرقابة التشريعية والقضائية والمجتمعية وإسناد العمل القضائي الذي يقوم به الجهاز من اعتقال وتحقيق وإفراج للقضاء بالبت في الجرائم الأمنية على أن يصبح جهاز الأمن معلوماتياً صرفاً، بما يواكب متطلبات التحول الديموقراطي، وفي المقابل تأتي رؤية قادة جهاز الأمن وحجتهم في رفض تغيير وتقليص مهام الجهاز كونه يرتبط بعملية معقَّدة لا تصلح معها نظريات الإصلاح وتتطلب جهداً احترافياً يتماشى مع أهمية الأمن الوطني وضرورات تماسكه وعدم انهياره، عطفاً على ما حدث عقب انتفاضة رجب/أبريل 1985 عندما صدر قرار متعجِّل بحل جهاز الأمن.

لا جديد
البحث في خلفية مطالبة الجهاز القضائي بمباشرة الإشراف على الاعتقال والتحقيق والإفراج يجيء بعد مزاعم ودعاوى وانتقادات في حق الجهاز لا سيما فيما يخص الاعتقالات التحفظية دون تحقيقات، ولكن الجهاز وقبيل أيام فقط نفى بشكل قاطع وجود معتقلين سياسيين في البلاد.

وعلى خلفية هذه المزاعم ومطالبات السلطة القضائية وإمكانية تكييف ذلك الأمر قانونياً يقول رئيس الدائرة القانونية بحزب المؤتمر الوطني الحاكم، الفاضل حاج سليمان، إن سلطة جهاز الأمن في القبض والاعتقال ليست مطلقة، ومحددة بموجب القانون، وإن الرقابة القضائية على الرقابة الأمنية تظهر في نص القانون (على أن يحال الشخص المعتقل بعد انتهاء الفترة المحددة للقضاء، أو إطلاق سراحه).

ويمضي الفاضل شارحاً لـ “الصيحة” حق الجهاز في الاعتقال دون الرجوع للقضاء بأن القانون يُتيح له أن يقبض ويحتجز في بعض الجرائم لأغراض التحقيق والمتابعة، لكن هذا محدد بمدى زمني منصوص عليه في القانون ولا يمكن تخطّيه، في مرحلة ما يعرف بالإجراءات الأولية. مؤكداً أن مطالبة نائب رئيس القضاء بوضع إجراءات جهاز الأمن تحت إشرافه لا تتضمن شيئاً جديداً في جانب الرقابة القضائية فيما يخص عمل جهاز الأمن في الإجراءات الأمنية التي هي خاضعة –أصلاً- للسلطة القضائية، منوهاً إلى أن النقطة مثار الجدل تتصل بالمدة المحددة في القانون.

أمن قومي
عن رؤيته فيما يخص المطالبة بتجريد جهاز الأمن من سلطاته، قال الفاضل إن هذه سلطة اكتسبها الجهاز بموجب القانون في إلقاء القبض والتحري، لافتاً إلى أن الجدل الدائر الآن ليس دستورياً وإنما أمر قانوني لأن الحقوق المنصوص عليها في المادة (27) هي حقوق لا ينبغي المساس بها (حد تعبيره) موضحاً أن القبض لأسباب أمنية مسألة يقدرها جهاز الأمن ولا سيما المسائل المتعلقة بالأمن القومي، مضيفاً أن القانون أعطى الجهاز الحق في القبض والتحري وفق الزمن المحدد وبإشراف من أصحاب الرتب العليا، قائلاً: (لا أعتقد أن جهاز الأمن لديه غرض باعتقال شخص دون أسباب بقدر ما هو مهتم بحماية الأمن القومي).

تقييد بالقانون
يقول الخبير القانوني، نبيل أديب، فيما يتعلق بالاعتقال والتفتيش، إن النيابة المنوط بها القيام بهذا الدور خاضعة لسلطة القضاء، وكل مراحل التقاضي. وعن رؤيته لجدلية تبعية إجراءات الاعتقال ومطالبة القضاء بالإشراف على الأمر إشرافاً مباشراً، أشار أديب في حديثه مع “الصيحة” لأنها مطالبة صحيحة 100% لأنه لكون سلطة الأمن خاضعة للرقابة، خاصة القضاء باعتباره الضمانة الحقيقية للحريات العامة التي قد تنتهكها السلطة التنفيذية بعمل إجراء مخالف للدستور وكذلك التشريعية عندما تصدر تشريع مخالف، وهنا تأتي السلطة القضائية كضامن لعدم خرق الدستور (حد تعبيره).

ويخلص نبيل إلى أن جهاز الأمن غير مؤهل كسلطة تنفيذية في الفصل في المسائل الدستورية، لكنه مؤهل لاتخاذ إجراءات القبض تحت رقابة السلطة القضائية التي هي أصلاً مؤهلة لحماية الحقوق، منبهاً إلى إمكانية إنهاء هذا الجدل بتقليص صلاحيات الأمن، على أن يكون تفويضه محدداً بنوع معين من الجرائم، وعدم شغله بجرائم جنائية مثل القتل والسرقة، وإنما يشغل بما هو مفوض لأدائه في حماية أمن الدولة، وألا يتدخل في الجرائم العادية وألا تكون له علاقة بالعمل السياسي المدني غير المسلح، قائلاً إنه لا يمكن للجهاز الاعتقال والقبض إلا عبر أمر قبض صادر من سلطة قضائية مثله مثل الشرطة لكن يمكن أعطاؤه سلطة أوسع إن كان الأمر متعلقاً بأمن الدولة مثل المراقبة عن بعد أو التنصت على مكالمات لكن بالضرورة أن تكون بإذن من القضاء بعد تقديم الحجة التي تستوجب القيام بهذا الإجراء، مختتماً حديثه بالقول إنه لا يمكن إعطاء جهاز الأمن سلطة تحرٍّ وقبض وتحقيق دون أن تكون هناك سلطة أعلى منه للرقابة عليه.

معركة بالأسنان
على كلٍّ، فالأنظار ترنو للبرلمان كجهة محكمة، بين ما يرجوه المحاورون، والمعارضون، وحتى السلطة القضائية، من إحداث تغييرات هيكلية وقانونية على الجهاز، فيما يطالب الأخير بتقويته وزيادة صلاحياته ومنحه قوة وأسناناً.

الخرطوم: الطيب محمد خير
صحيفة الصيحة

Exit mobile version