كنت قد ذكرت في مقالات سابقة أن أكثر خيارات مستقبل الحكم في السودان سلامة هي الهبوط الناعم، الذي بادر به لفظاً ومضموناً الإمام الصادق المهدي الذي توصل الى ذلك بعد أن أعمل كل خبرته وفكره في دراسة عميقة للوضع الداخلي في السودان، مقروءة مع الخطط الاستراتيجية الخارجية ودور القوى الخفية التي تدير العالم منذ أكثر من مائة عام (النورانيين والماسونية) في تشكيل منطقة الشرق الأوسط ورسم خارطة جديدة لها، بكل الوسائل المدمرة من الفوضى الخلاقة في بعض الدول إلى اشعال حرب عالمية ثالثة مركزها الشرق الأوسط إذا لم تنجح الفوضى..
شمل تمحيص الإمام تقدير موقف لطرفي النزاع في السودان- السلطة الحاكمة والمعارضة بشقيها المدني والمسلح.. وجد أن النظام الحاكم أصبح عميقاً جداً متمثلاً في قوات مسلحة قوية عدداً وعتاداً وتأهيلاً وتماساكاً مدعومة بقوات الدعم السريع خفيفة الحركة، ومليشيات مسلحة غير مرئية في الخرطوم والمدن الكبرى.. وجد جهازاً للأمن والمخابرات في كفاءة عالية وقدرات مالية وفنية وبشرية هائلة منتشرة في كل شبر من السودان.. وجد قوات شرطة مؤهلة سريعة الحركة مدعومة بجهاز مباحث مقتدر لم يفشل في كشف طلاسم أية جريمة غامضة، ووجد أخيراً أن أعضاء الحزب الحاكم تمكنوا من مفاصل الدولة الرسمية والمجتمعية ..
في المقابل وجد أن المعارضة المدنية في شتات وتشظي يستحيل اتفاقهم على أي برنامج حتى في حده الأدنى وتفرقوا بين ما يزيد عن المائة حزب أو فصيل كان متمرداً يحمل السلاح في دارفور، وأن المعارضة المسلحة تراجعت الى الخطوط الدفاعية في مناطق محدودة في كاودا، والنيل الأزرق، وجبل مرة.. وجد أن كل هذا العمق في النظام الحاكم أصبح عصي الإقتلاع بغير خسائر فادحة تهدد سلامة كل الوطن وكل المواطنين.. وانزلاق السودان في فوضى غير خلاقة لا يعلم مداها إلا الله لأن الاقتلاع المسلح في الظرف الحالي كالنار في الهشيم- والهشيم هو تلك الأسلحة الخفيفة المنتشرة سراً وعلانية في المدن وبؤر القتال.. بدأ هذا العمق في إدارة الدولة منذ 1989 في شكل هرم مقطوع الرأس يبدأ من قاعدة عريضة هي عضوية الحركة الاسلامية السودانية، يتدرج الى أعلى في خطوط أفقية تضيق متمثلة في مستويات قيادية ووسيطة حتى ينتهي الى خط أفقي ضيق يمثل مجلساً أربعينياً كرأس عريض للهرم.. من أبرز قيادات هذا الرأس العريض الرئيس البشير، والراحل د. الترابي، وعلي عثمان، ود. نافع، وعبد الرحيم علي، وقطبي المهدي، وأحمد ابراهيم الطاهر، وعوض الجاز، وابراهيم أحمد عمر، وغازي صلاح الدين وغيرهم..
بعد المفاصلة الشهيرة عام 1999 ارتفع خط القيادة الأفقي الى أعلى ليضيق أكثر، ومن أبرز رموزه الرئيس البشير، وعلي عثمان، ود. نافع، وصلاح قوش، وعوض الجاز، ومصطفى عثمان اسماعيل وغيرهم.. ثم ارتفع خط القيادة أكثر الى أعلى بعد الفترة الانتقالية وانفصال الجنوب وبداية دخول السودان في تحالفات اقليمية عربية ليكتمل الهرم في نقطة واحدة هي الرئيس البشير الذي يتحكم الآن وبقوة في كل خيوط السلطة ومستويات الهرم حتى القاعدة، وأصبحت بذلك السياسات والقرارات سريعة الصدور والتنفيذ بعيداً عن الآراء المتباينة والتعطيل و(الملاواة)، مما سهل مهمة الرئيس في تحقيق تحول جذري في توجهات وسياسات السودان مثل الانضمام الى عاصفة الحزم وكسب السعودية، ثم الانضمام الى حلف محاربة الإرهاب والتطرف والحركات الاسلامية المرنة والمتطرفة، ثم قطع العلاقات مع ايران وأخيراً القرارات القوية في دعم القوات البرية في اليمن، الأمر الذي أحدث تحولاً هائلاً مفيداً للسودان من جانب قيادة دولة الامارات التي استقبلت البشير الأسبوع الماضي استقبالاً غير مسبوق فيه حديث واضح كل الوضوح من قيادة الإمارات المتمثلة في الحاكم الفعلي لدولة الامارات الشيخ محمد بن زايد فيه إشادة صادقة أخوية بالرئيس البشير ووعد قاطع بالوقوف مع السودان في كل جانب وبذلك أصبحت العلاقة بين السودان ودولة الامارات استراتيجية، مما يعني ابتعاداً عن دولة قطر التي تساند الحركة الاسلامية العالمية بقوة..
هذا التحول الجريء الشجاع في السياسة الخارجية منذ أكثر من عام أكسب السودان كثيراً إذ أصدرت الإدارة الأمريكية في يناير الماضي قرارات رئاسية برفع جزئي للعقوبات الاقتصادية الأمريكية لفترة ستة أشهر تنتهي في 8 يوليو 2017 يتحدد بعدها رفع كلي أو إعادة العقوبات.
ثم أصدر مجلس الأمن قراره 2340 تحت الفصل السابع في 8 فبراير 2017 والذي به اعتراف واضح بنظام الحكم الحالي في السودان وإدانة لكل من يحاول اقتلاعه بالقوة.. كل هذه القوى الخارجية تأكدت من ضعف المعارضة المدنية والمسلحة ومن قوة وتمكن النظام خاصة أمنياً، لذلك انضمت الى دعوة الإمام الصادق القديمة التي لم يحد عنها والمتمثلة في تعديل النظام جذرياً عبر ما أسماه الهبوط الناعم.. والهبوط الناعم في خطط القوى الدولية الغربية ينادي بضرورة إتاحة الحريات وحل نزاعات السودان وفق خارطة الطريق الأفريقية التي تعترف بالمعارضة المدنية والمسلحة، وضرورة اشراكها في إدارة الدولة، مع إزاحة قيادات الحركة الاسلامية الى المقاعد الخلفية في عربة القيادة مما يعني تجميد المشروع الحضاري الذي قامت عليه الإنقاذ.. المجتمع الدولي خاصة أمريكا وجد في هذا الهبوط الناعم ضالته في تحقيق أهدافه الاستراتيجية باعتبار السودان مركز الثقل الأمني الجديد في المنطقة الأفريقية والعربية، وضرورة وجود أمريكا الفعلي في حماية السودان من الإنزلاق في فوضى تؤثر في أمن ثماني دول هشة قابلة للإنفجار تحيط بالسودان..
ووجود أمريكا الفعلي بكل أجهزتها عالية التقنية يتيح لها مراقبة كل أنشطة دول المنطقة العربية والأفريقية، وبذلك تحافظ على الأمن والسلم الاقليميين.. والهدف الاستراتيجي الثاني هو جعل السودان مركز الثقل الاقتصادي في المنطقة لما تملكه أمريكا من معلومات عن ثروات السودان الهائلة في سطح الأرض وباطنها.. نتيجة لهذه الاستراتيجية الجديدة تحول المجتمع الدولي الى ممارسة ضغوط رهيبة على المعارضة السودانية المسلحة والمدنية، حتى أصدر الحزب الشيوعي السوداني في 20 فبراير 2017 بياناً جاء فيه: (إن تسارع الخطوات في الهبوط الناعم الذي يعيد انتاج الأزمة من جديد كما هو الحال في النشاط المحموم للمجتمع الدولي ومجلس الأمن والضغوط على قوى المعارضة المدنية والمسلحة مع التهديد والوعيد يهدف الى توسيع قاعدة النظام.. إن توسيع قاعدة النظام الغرض منها خدمة مصالح الرأسمالية الإقليمية والعالمية الرامية لنهب أراضي السودان البكر وموارد البلاد وتحويلها الى أكبر مركز للإستخبارات الأمريكية في المنطقة، وأن هذا المخطط بدأ في السنوات الأخيرة لدكتاتورية مايو ولكن انتفاضة أبريل 1985 قطعت الطريق أمام ذلك المخطط.).انتهى..
لذلك من الواضح أن هناك انفراجاً في العلاقات الخارجية والتطبيع مع العالم الخارجي والخليجي شملت دعوات واضحة لأول مرة بالتطبيع مع اسرائيل التي سعت وحثت أمريكا لرفع العقوبات عن السودان.. في الآونة الأخيرة تزايدت الضغوط الدولية على المعارضة خاصة المسلحة في اتجاه قبول الهبوط الناعم المفضي في النهاية الى نظام متماسك شبه شمولي، بعيداً عن تأثير الحركة الاسلامية العالمية، والهبوط الناعم إذا نجح سوف يشكل تياراً جارفاً مدعوماً دولياً يقضي على كل من يقف في مواجهته لكنه يؤدي قطعاً الى ابعاد السودان من الفوضى التي تدور حوله، والى استقراره في نظام شبه شمولي واقتصاد قوي بدعم خليجي ودولي..
المجتمع الدولي خاصة أمريكا لا يساند نظاماً ديمقراطياً كامل الدسم كثير الشفافية، وسريع المحاسبة، وكلها تعيق انفاذ الأهداف الاستراتيجية.. وفي حالة فشل هذا المخطط فان البديل جاهز قبل سنوات وهو الخطة (ب)- تقسيم السودان الى دويلات أربع يسهل تدجينها وتطويعها.
تقرير:عمر البكري أبو حراز
صحيفة آخر لحظة